شكر النعمة حقيقته وعلاماته
الشكر لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما عقب:
فمن المعروف أن الله جل وعلا أسبغ علينا نعما كثيرة، ولم يزل يسبغ على عباده النعم الكثيرة، وهو المستحق لأن يشكر على جميع النعم. والشكر قيد النعم، إذا شكرت النعم اتسعت وبارك الله فيها وعظم الانتفاع بها، ومتى كفرت النعم زالت وربما نزلت الجزاءات العاجلة قبل الآجلة. فالنعم أشكال منوعة: نعمة الصحة في البدن والسمع والنظر والذهن وجميع الأعضاء، وأعظم من هذا وأضخم: نعمة الدين والثبات عليها والعناية بها والتفقه فيها، أفاد تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا}[1]، فأعظم النعم نعمة الدين، وقد بعث الله الرسل وأنزل الكتب حتى أبان لعباده دينه الهائل ووضحه لهم ثم وفقك أيها المسلم وهداك حتى كنت من أهله.
فهذه النعمة الكبيرة التي يلزم أن نشكر الله عليها غرض الحمد. وإنما يعلم قدرها وعظمتها من نظر في حال العالم وما نزل بهم من أشكال الكفر والشرك والضلال، وما ظهر بين العالم من أشكال الفساد والانحراف وإيثار العاجلة والزهد في الآجلة، وما تشعبت وتوسّع ايضاً من أضرار الشيوعية والعلمانية وأفكار الدعاة لهما، ومعروف ما تحوي عليه تلك الأفكار من الكفر بالله وبجميع الأديان والرسالات والكتب المنزلة من السماء. وبالتالي ما ابتلي به العديد من الناس من عبادة أصحاب القبور والأوثان والأصنام وصرف خالص حق الله إلى غيره. وايضا ما ابتلي به العديد من البدع والخرافات وأنواع الضلال والذنوب. وإنما تعرف النعم وعظم شأنها وما لأهلها من الخير عندما يعلم ضدها في تلك الشرور الكثيرة وما لأهلها من العواقب الوخيمة، فنعمة الإسلام عاقبتها الجنة والكرامة والوصول إلى دار التنعم بالقرب من الرب الكريم في دار لا يفنى نعيمها ولا يبلى شبان أهلها، ولا تنقضي سلامتهم ولا أمنهم، بل هم في صحة مستدامة وأمن دائم، وشباب لا يبلى وخير لا ينفد، وجوار للرب الكريم كما صرح الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[2]، والآيات في ذلك المعنى كثيرة. وأما أهل الكفر والضلال فمصيرهم إلى دار الهون… إلى عذاب حاد وإلى جحيم وزقوم في دار مستدامة لا ينتهي عذابها ولا يلقى حتفه أهلها، كما صرح الله سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}[3]، فمن بال في ذلك الشأن وعرف نعمة الله عليه فإن اللازم عليه أن يشكر تلك النعمة بالثبات عليها، وسؤال الله سبحانه أن يوفقه للاستمرار عليها حتى الوفاة والحفاظ عليها بطاعة الله وترك معصيته، والتعوذ بالله من عوامل الضلال والفتن ومن عوامل زوال النعم. وعليه ايضاً إمتنان النعم الأخرى غير نعمة الإسلام الأمر الذي يحصل للعبد من الصحة والعافية وغير هذا من نعم الله عز وجل الكثيرة: كالأمن في الوطن والأهل والمال. وقد يكون سوقها إليك أيها العبد من عوامل إسلامك وإيمانك بالله، وقد يكون هذا ابتلاء وامتحانا مع كفرك وضلالك. قد تمتحن بوجودك في محل آمن وصحة وعافية ومال عديد، وأنت مع هذا منحرف عن الله وعن طاعته فهذا يكون من الابتلاء والامتحان وإقامة الحجة عليك ليزيد في عذابك الآخرة إذا مت على تلك الوضعية السيئة. فالشكر حقيقته أن تقابل نعم الله بالإيمان به وبرسله ومحبته عز وجل، والاعتراف بإنعامه وشكره على هذا بالقول الصالح والمدح الحسن والمحبة للمنعم وخوفه ورجائه والشوق إليه والدعوة إلى طريقه والقيام بحقه. ومن الإيمان بالله ورسله الإيمان بأفضلهم وإمامهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والتمسك بشريعته.
فمن إمتنان الله أن تؤمن بالله إلها ومعبودا حقا وأنه الخلاق والرزاق العليم، وأنه المستحق لأن يعبد وحده، وتؤمن بأنه رب العالمين، وأنه لا إله غيره ولا معبود بحق سواه، وتؤمن بأسمائه وصفاته عز وجل، وأنه كامل في نفسه وأسمائه وصفاته لا شريك له ولا شبيه له ولا يقاس بخلق جل وعلا كما أفاد تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[4]، وصرح تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[5].
النعمة حقيقته وعلاماته 13783153193.Gif
ومن الإيمان بالله سبحانه أن تؤمن بأنه هو المستحق للعبادة كما تقدم، كما صرح تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ}[6]، وصرح تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[7] إلخ، وتحدث سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[8]، وصرح عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ}[9] إلخ، وصرح تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}[10] إلخ، وصرح سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}[11] إلخ، فالله هو المستحق لأن يعبد وحده بدعائنا ورجائنا وخوفنا وصلاتنا ونذورنا وذبحنا وغير هذا من أشكال العبادة. وبهذا تعلم أن ما يفعله الجهلة بشأن القبور من الدعاء والخوف والرجاء والذبح والنذر لأهلها – أن ذلك هو الشرك الأضخم، وأنه يناقضه قول لا إله سوى الله. وتعرف كذلك أن من أنكر اليوم الآخر والبعث والنشور والجنة والنار فهو من أكفر خلق الله ولم يؤمن بالله سبحانه وتعالى بل كافر بالله ودينه… إلخ. والشيوعيون الملحدون قد توافرت فيهم أشكال الكفر والضلال كما توافرت فيمن عبد غير الله وأشرك معه غيره من عبَّاد القبور والأوثان، وعباد الأنبياء والصالحين، وعباد الأصنام والكواكب والشمس والقمر ونحو هذا، كما صرح تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا}[12] إلخ، وتحدث تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[13]، ومن دفع العبادة لغير الله كمن صرفها للجن أو الملائكة أو للبدوي أو للحسين أو غيرهم من الخلق فقد أشرك بالله غيره، وعبد مع الله سواه، ونقض بهذا قوله: (لا إله سوى الله)، وكفر بنعم الله التي أنعم بها عليه بالصحة والعافية، وبالرسل وبرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أعظم كفر للنعم {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}[14] إلخ. وتلك العقيدة السليمة هي التي أتت بها الرسل عليهم الصلاة والسلام وأتى بها أكملهم وإمامهم وأفضلهم ونصيبنا منهم محمد صلى الله عليه وسلم، أتى يدعو إلى توحيد الله والإخلاص له. وأرسل رسله إلى القبائل تدعوهم إلى توحيد الله عز وجل وإلى البلاد والمدن ايضاً، كما أرسل عليا ومعاذا وأبا موسى الأشعري رضي الله سبحانه وتعالى عنهم إلى الجمهورية اليمنية. وأقام في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى توحيد الله عز وجل، وأقام في المدينة عشر أعوام يدعو إلى توحيد الله واتباع شريعته، وإنما بدأ بالدعوة إلى التوحيد لأنه هو الأساس، فهو أساس الإيمان أبوين وأساس الحمد لله المنعم، وبه بدأ الرسل جميعهم كما أفاد الله سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[15] الآية. فمن فاته توحيد الله والإخلاص له عز وجل فإن جميع أعمالهم كلها باطلة لا تنفعه بشيء، كما أفاد تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[16]، وصرح تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[17]، والشكر لله سبحانه على نعمة التوحيد وغيرها من النعم من أعظم الواجبات وأفضل القربات، وهو يكون بقلبك محبة لله وتعظيما له ومحبة فيه وموالاة فيه… شوقا إلى لقائه وجناته، فهو سبحانه العالي فوق خلقه والمستوي على عرشه استواءً يليق بجلاله وعظمته، وليس المعنى استولى كما تقول المبتدعة من الجهمية وغيرهم، بل هو بمعنى: ازداد فوق عرشه كما صرح السلف رحمهم الله بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه سبحانه وتعالى يعرف جميع الأشياء وليس يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى. ومما اشتهر في هذا قول مالك رحمه الله لما سئل عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[18] كيف استوى؟ فأجاب رحمه الله بقوله: (الاستواء معروف، والكيف مجهول، والإيمان به لازم، والسؤال عنه بدعة) وبقوله صرح أهل السنة والجماعة رحمهم الله. والمراد بقوله: (والسؤال عنه بدعة) – يقصد الكيف؛ لأنه لا يعلمه سوى الله تعالى، أما الاستواء فمعلوم، وهو العلو والارتفاع، وروي ذلك المعنى عن أم سلمة رضي الله سبحانه وتعالى عنها وعن ربيعة ابن والدي عبد الرحمن شيخ مالك رحمة الله عليهما. ومن الحمد بالفؤاد لله ايضاً محبة المؤمنين والمرسلين وتصديقهم فيما جاءوا به ولا سيما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة، كما صرح سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[19]، ومن الحمد بالفؤاد ايضا أن تعتقد جازما أن العبادة حق لله وحده ولا يستحقها واحد من سواه. ومن الحمد لله بالفؤاد الرهاب من الله ورجاؤه ومحبته حبا يحملك على تأدية حقه وترك معصيته، وأن تدعو إلى طريقه وتستقيم على هذا. ومن هذا الوفاء له والإكثار من التسبيح والتحميد والتكبير. ومن الحمد ايضاً المدح باللسان وتكرار النطق بنعم الله والتحدث بها والمدح على الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الحمد يكون باللسان والفؤاد والعمل. وبالتالي إمتنان ما شرع الله من الأقوال يكون باللسان. وهناك نوع ثالث وهو الحمد بالعمل… بفعل الجوارح والفؤاد؛ ومن عمل الجوارح تأدية الفرائض والمحافظة عليها كالصلاة والصيام والزكاة وحج منزل الله الحرام والجهاد في طريق الله بالنفس والمال كما صرح تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}[20]الآية. ومن الحمد بالفؤاد الوفاء لله ومحبته والخوف منه ورجاؤه كما تقدم والشكر لله داع للمزيد من النعم كما أفاد سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}[21]، ومعنى تأذن: يقصد أعلم عباده بهذا وأخبرهم أنهم إن شكروا زادهم وإن كفروا فعذابه حاد، ومن عذابه أن يسلبهم النعمة، ويعاجلهم بالعقوبة فيجعل عقب الصحة الداء، وبعد الخصيب الجدب، وبعد الأمن الرهاب، وبعد الإسلام الكفر بالله عز وجل، وبعد الطاعة الخطئية. فمن إمتنان الله عز وجل أن تستوي على كلفه وتحافظ على حمده حتى يزيدك من نعمه، فإذا أبيت سوى كفران نعمه ومعصية كلفه فإنك تتعرض بهذا لعذابه وغضبه، وعذابه أشكال؛ بعضه في الدنيا وبعضه في يوم القيامة. ومن عذابه في الدنيا: سلب النعم كما صرح تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}[22]، وتسليط الخصوم وعذاب يوم القيامة أقوى وأعظم كما صرح سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ}[23]، وصرح تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[24]، فأخبر سبحانه أن الشاكرين قليلون وأكثر الناس لا يشكرون. فأكثر الناس يتمتع بنعم الله ويتقلب فيها ولكنهم لا يشكرونها بل هم ساهون لاهون غافلون كما صرح تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}[25]، فلا يتم الحمد سوى باللسان واليد والفؤاد جميعا. وبهذا المعنى يقول الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ***- يدي ولساني والضمير المحجبا
والمؤمن من شأنه أن يكون صبورا شكورا كما صرح تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}[26]، فالمؤمن صبور على المصائب شكور على النعم، صبور مع أخذه بالأسباب وتعاطيه العوامل، فإن الصبر لا يمنع العوامل، فلا يجزع من الداء ولكن لا عائق من العلاج.
فلا يجزع من قلة غلة المزرعة أو ما يصيبها ولكن يداوي المزرعة بما يزيل من أمراضها، فالصبر ضروري وواجب، ولكن لا يمنع الدواء والأخذ بالأسباب. فالمؤمن يصبر على ما أصابه ويعلم أنه بمقدار الله وله فيه الحكمة البالغة ويعلم أن المعاصي شرها كبير وعواقبها وخيمة فيبادر بالتوبة من المعاصي والذنوب.
فعليك أيها المسلم أن تتوب إلى الله عز وجل حتى يصلح لك ما كان فاسدا ويرد عليك ما كان غائبا. وقد صح في الجديد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفاد: ((إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) فقد يفعل الإنسان ذنبا يحرم به من نعم كثيرة. صرح تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}[27] وصرح جل وعلا: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}[28] الآية، وتحدث سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[29]، فالمصائب فيها مناشدة للرجوع إلى الله وتنبيه للناس لعلهم يرجعون إليه. فالعلاج الحقيقي للذنوب يكون بالتوبة إلى الله وترك الذنوب والصدق في هذا، ومن جملة هذا الدواء: ما شرع الله من الدواء الحسي فإنه من طاعة الله، كما صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عباد الله تداووا ولا تتداووا بحرام)) فالمؤمن صبور نحو البلايا في ذاته وأهله وولده شكور نحو النعم بالقيام بحقه والتوبة إليه كما أفاد رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجبا لأمر المؤمن إن كلفه كله له خير وليس هذا لأحد سوى للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وإن أصابته سراء إمتنان فكان خيرا له)) رواه مسلم في السليم من عصري صهيب ابن سنان رضي الله سبحانه وتعالى عنه. ومن الحمد لله عز وجل لزوم السنة والحذر من البدع. فإن كثيرا من الناس قد يبتلى بالبدعة تقليدا وتأسيا بغيره، وأسبابها الجهل. والبدعة نوع من كفران النعم وعدم الحمد لله سبحانه وتعالى. ومن هذا ما يفعله عديد من الناس في عديد من البلاد والمدن من الاحتفال بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول، ويعتقدون أن هذا حكمه مستحب جهلا منهم وتقليدا لغيرهم، وهذا غلط لا أساس له في الشرع المطهر، بل هو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، وقد يحدث في ذلك الاحتفال أشياء منكرة من شرب المشروبات المسكرة واختلاط السيدات بالرجال، بل قد يحدث فيه قصائد بها شرك أضخم مثل ما قد حدث في البردة للبوصيري، وهذا في قوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ***- سواك نحو إجابات الحادث العمم
إذا لم تكن في معادي آخذا بيدي ***- فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ***- ومن علومك معرفة اللوح والقلم
وكما حدث في قصيدة البرعي اليمني وما فيها من الشرك الأضخم في دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالاحتفالات بالموالد سواء كان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الموالد الأخرى كمولد البدوي أو ابن علوان أو الحسين أو علي رضي الله سبحانه وتعالى عنهما – كلها بدعة منكرة أحدثها الناس ولم تكن في فترة حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في فترة حكم أصحابه ولا في القرون المفضلة. وأول من أحدثها هم الشيعة الباطنية وهم بنو عبيد القداح المعروفون بالفاطميين الذين ملكوا جمهورية مصر العربية والمغرب في المائة الرابعة والخامسة، وأحدثوا احتفالات كثيرة بالموالد، كمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسين وغيرهما، ثم تابعهم غيرهم في أعقاب هذا، وذلك فيه تشبه بالنصارى واليهود في أعيادهم، وفيه إحياء لاجتماعات فيها عديد من الذنوب والشرك بالله، حتى ولو فعلها عديد من الناس، هذا لأن الحق لا يعلم بالناس وإنما يعلم الحق بالأدلة الشرعية في الكتاب والسنة. وقد نبه عديد من العلماء على هذا منهم شيخ الإسلام ابن تيمية والشاطبي وآخرون رحمة الله عليهم، ومن استحسنها من بعض المنتسبين للعلم فقد غلط غلطا بينا لا تجوز متابعته عليه. فإن تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وتوضيح فضله وشأنه لا يكون بالبدع بل باتباع شرعه وتعظيم طالبه ونهيه والدعوة إلى سنته وتعليمها الناس في المساجد والمدارس والجامعات، لا بإقامة احتفالات مبتدعة باسم المولد؛ لما تقدم من الدلائل الشرعية، ولما يحدث فيها من الغلو والشرور الكثيرة، وربما صار فيها الاختلاط وشرب المسكرات، بل قد يحدث فيها ما هو أكثر من هذا من الشرك الأضخم كما في مرة سابقة التنبيه على هذا. وقد حدث في الناس أيضاً تقليد لهؤلاء، فقد احتفل الناس بعيد ميلاد أولادهم أو عيد الزواج، فهذا ايضاً من المنكرات وتقليد للكفرة. فليس لنا سوى عيدان عيد الفطر تهديد النحر وأيام التشريق وعرفة ويوم الجمعة. فمن اخترع عيدا جديدا فقد تشبه بالنصارى واليهود. أفاد صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد))، وصرح: ((من أجدد في أمرنا ذلك ما ليس منه فهو رد))، وصرح عليه الصلاة والسلام: ((إياكم ومحدثات الموضوعات فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة))، والأحاديث في ذلك المعنى كثيرة. فالواجب على أهل الإسلام أن يسلكوا سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله سبحانه وتعالى عنهم وأتباعهم من السلف الصالح، وأن يتركوا البدع المحدثة بعدهم. وذلك كله من إمتنان الله قولا وعملا وعقيدة. وأسأل الله أن يوفقنا جميعا للعلم المفيد والعمل الصالح، وأن يرزقنا الشغل بالسنة والاستقامة عليها، وأن يوفقنا لشكر نعمه قولا وعملا وعقيدة مع الاستقرار على الحق. كما نسأله سبحانه أن يصلح جميع ولاة أمور المسلمين وأن يوفقهم لكل خير، وأن يرزقهم البطانة الصالحة، وأن يعينهم على معيشة أمر الله في أرض الله وعلى معيشة حواجز الله على عباد الله، وأن يولي على جميع أمور المسلمين خيارهم وأن يعيذهم من مضلات الفتن إنه سميع قريب.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.