تحسين الخط
يعدّ جمال الخطّ إحدى الوسائل التي يتميّز بها صاحبها عن غيره، فقد قال ابن خلدون في مقدّمته الشهيرة: “إنّه صناعة شريفة يتميّز بها الإنسان عن غيره ، وبها تتأدى الأغراض ؛ لأنها المرتبة الثانية من الدّلالة اللّغوية”، فهو لا يختلف عن أيّ مهارة جسدية أو ملكة إبداعية، أو موهبة؛ فصاحب المهارة أو القدرة على الإبداع الشعري أو النثري والمخترع والمكتشف يشعر بالتفوق والتميّز، و يلمح ذلك التفوق والتميّز في عيون الناس،وفي ملامح وجوههم واتّساع حواجبهم، ويتثبّت بعذب المديح وجمال القصيد الذي يتدفّق من أفواههم، كما أنّ إجادة فنّ الخطّ مدعاة لغبط صاحبها وحسده على هذه الموهبة التي منّ الله بها على البشر. ومن أجل ذلك دعا عبد الحميد الكاتب إلى الاهتمام بجمال الخط وتحسينه قدر الإمكان فقال: “أجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم”، إنّه وصفه بالحلية، أيّ أنّ امتلاكها يغني ويثري ويدخل الحسد والغيرة في قلوب الآخرين.
إنّ جمال الخطّ يشي بصفات صاحبه وسلوكه وتصرّفاته، فجمال الخط وترتيبه يوحي بأنّ هذا الإنسان منظّم في حياته اليوميّة ودقيق في اختيار كلماته وأصدقائه وملابسه وأشيائه، فهو لا يرضى بالعشوائية وقلة التنظيم، والأخذ من الأمور بأطرافها، من هنا وجبّ أن يحسّن الفرد من خطّه، ويوليه شيئا من اهتمامه، ولا يظنّنّ أنّ ذلك قشور لا قيمة لها؛ لأنّ هذا الأمر ينعكس على شخصيته وتصرفاته وسلوكه.ولعلّ انصراف الاهتمام عن الخطّ وتحسينه يدلّ على تشتت الشخصيّة العربية عموما، ولا يفهم من هذا أنّ عدم إجادة الخط هو سبب تراجع الشخصية العربية وانكسارها، إنّما يراد من ذلك أنّ هذا واحد من الأسباب التي الجأت الشخصية العربية عامةً أن تميل إلى الاكتفاء بالقليل والميل إلى الركون، وهو دليل ساطع على التشتّت والميل إلى عدم الإتقان في كلّ شيء، وحديث الرسول عن وجوب اتقان العمل مهما كان يحثّنا على إجادة الخطّ وتجميله وتحسينه ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
هناك وسائل كثيرة تعين على تحسين الخطّ، وقبل الشروع بالتّفصيل فيها لابد أن يعلم الساعي إلى تحسين خطّه أنّ المران والممارسة هو السبيل الذي لا يغني عنه أيّ سبيل آخر، إذ كلّ شيء في هذه الحياة يتحقّق ويكتمل بكثرة ترداده والمداومة عليه، إذا كان ذلك يجري على الملكات وعلى الفِطَر فكيف لا يكون سلاحا ماضيا لعمل يدوي، وكلّما زاد وقت الكتابة كلّما زاد التمكّن من الخطّ، فقد يكون الخطّ في بداية الأمر غير واضح ولا يفهم عدا عن سوءه، وبالتدريب والتكرار يصبح الخط أوضح ويمكن قراءته، فإن استمرّ التدريب وازداد زاد جمالاً وحسناً.
ومع ذلك ثمّة وسائل أخرى تساعد على تحسين الخطّ، منها الإقتناع التامّ بأهميّة ذلك وجدواه، و أنّ التقدّم في هذا المجال خطوة للتميّز والإبداع، فيقبل على ذلك راغباً غير متردّد وبهمة عالية للوصول إلى أعلى نقطة.
ويكون التّمرين أكثر فائدة حين يصاحبه توجيه من متخصّص ومتمرّس في الخط، فيرشد المتعلّم أو المتدرّب إلى الجلسة الصحيحة للكتابة، والمسكة الصحيحة للقلم التي تريح القلم قبل اليد، وإلى الإنتباه على تسطير الورقة قبل الشروع في الكتابة، إضافة إلى كثير من الملاحظات التي تقوّم إعوجاج اليد وميلانها، وتعوّدها على السير في صراط مستقيم، فيكون الناتج خطا واضحا مقرؤا وجميلا.
ومن الوسائل المهمّة محاولة محاكاة الخطوط الجميلة، والسير على خطاها، وهذا من شأنه أن يجعل اليد و الأصابع بعد مدة من المحاكاة والتقليد تنتهج درباً اعتادت عليه وسبرت أغواره وعرفت زواياه و دهاليزه، فتظل تسلكه دائماً ولكن حذار أن تغيب عنه لأنّه بعد مدّة من الغياب ستستوحشه وتتوهّم تلك الديار.
ولا يدخل الملل إلى نفس المتعلّم و لا إلى يده وإن شقّ عليه التعلّم السريع، ولا يدفعه التأخّر في الإجادة وعدم التحسّن الواضح الملموس أن يقنط ويتقاعس، فكل شيء في البداية صعب، ولا تظهر بوادره إلا بعد حين فلا داعي لاستعجال الحصاد قبل النّضوج، ولا فائدة في قطف العنب حصرما.
إنّ المثابرة والاستمرار في بذل الجهد والعزيمة القويّة وحبّ النجاح عوامل مهمة في أي عمل، والخطّ عمل وفنّ، والتقدم والتميّز فيه يعتمد على مقدار الجهد والحبّ في بلوغ المراد، وعدم التوقف بعد تسلل اليأس والإحباط إلى النّفس، بل شحن الهمم وتحفيزها على طرد ذلك الشعور والإنطلاق من جديد.