الحضر
ينتمي الحضر لأقدم مملكة عربيّة في العراق وهي مملكة الحضر أو مملكة عربايا، وقد كانت تُعرف المنطقة بالجزيرة الفراتيّة، فهي تقع في الناحيّة الشماليّة الغربيّة من السهل الموجود في وادي الرافدين أي في الغرب من العراق، وتقع مدينة الحضر في جهة الجنوب الغربيّ من مدينة الموصل، وهي تُعتبر قريبة نوعاً ما من مدينة آشور القديمة. وقد نشأت هذه الحضارة 300 ميلاديّ (وهنا يعتقد البعض بأنها هذه الحضارة قد بدأت قبل هذا التاريخ بمدة أطول وذلك في الفترات الأخيرة من قرون ما قبل الميلاد قد تكون في القرن الثاني قبل الميلاد)، واستمر حكمها لما يُقارب 100 سنة، وخلال هذه المدة حكمها أربعة ملوك وهم الملك ولجش، والملك سنطروق الأول، والملك عبد سميا، والملك سنطروق الثاني. وقد كان الملك سنطروق الأول أخ الملك ولجش، والملك عبد سميا كان ابن سنطروق الأول، وسنطروق الثاني هو ابن عبد سميا. ومن الحضارات العربيّة التي وجدت في فترة مملكة الحضر وفي منطقة الهلال الخصيب مملكة الأنباط وعاصمتها البتراء، وولك تدمر وعاصمتها تدمر، دولة الغساسنة وعصامتها الجابية ودولة المناذرة وعاصمتها الحيرة.
وموقع مدينة الحضر التاريخيّة ومقر مملكة عربايا ليس هو ذاته موقع مدينة الحضر حالياً إلا أنّ المسافة فيما بينهما تعتبر قصير نوعاً ما إذ تبلغ حوالي 2 كيلومتر تقريباً، وفيها عُثر على عدد كبير من الكتابات والنصوص الكتابية والتي تمّ حفرها على أحجار كبيرة الحجم، وقد احتوت هذه الأحجار على مجموعة من القوانين والأحكام العُرفيّة وغيرها والتي كانت سائدة في المجتمع الحضريّ، وتتعلق هذه الأحكام بجرائم كالسرقة والعقوبة المناسبة والمقرّرة لها بحق من يرتكبونها. وقد تَمّ العثور على هذه النصوص خلال حملات وأعمال التنقيب في عام 1951 ميلاديّة من قِبل دائرة الآثار والتراث، وقد استمرت هذه التنقيبات لعدّة سنوات بعدها تخلّلها القيام بعدة إصلاحات، وترميمات، وأعمال صيانة لهذه المباني الأثريّة بهدف المحافظة عليها. ومن ما وجد أيضاً خلال الحفريّات أنّ هذه المدينة كانت مُنتعشة ومزدهرة اقتصادياً في فترة ما وذلك لعوامل عدّة منها المكانة الدينيّة لهذه المدينة لوجود المعابد فيها والتي يوجد فيها تماثيل وجثث لأموات لهم، وكونها مركزاً مهماً من مراكز القبائل العربية، إضافة لموقع المدينة عل الطرق البريّة والقريبة من نهر دجلة ونهر الفرات والتي ساعدت في عبور البضائع القادمة من مناطق الهند والجزيرة العربيّة من جهة الشرق مروراً بالمدينة واتجاهاً إلى المناطق الغربيّة.
وكالعديد ممن مروا على هذا التاريخ، فقد عُرفت مملكة الحضر بفنها، وصناعاتها، وابتكارتها للأسلحة، وكذلك بهندستها المعماريّة، وتمتاز هذه المدينة بموقعها الاستراتيجيّ من الناحيّة العسكريّة والناحيّة التجاريّة، ممّا ساعد على ازدهارها اقتصاديّاً، وكما أنّ لها أراضٍ خصبة وفيها مياه عذبة. وشكل مدينة الحضر مستدير نوعاً ما، ويحيط بها خندق عميق جوانبه محكمة جداً، أيضاً يحيط بها سور مكون من جدارين وفيه 163 برج. وقد وُجد خط من التراب يحيط بالمدينة من كل الجهات خارج السور، وهناك اعتقادان في هذا الشأن ولا يُعرف أي من هذاين الاعتقادين هو الأصح، اعتقاد يشير بإمكانيّة أن يكون هذا السور مجرد سور خارجي، واعتقاد يشير بأنّ ذلك السور هو حلقة صنعها العدو لكي يسيطر على المدينة ويحكم حصاره لها. إلى جانب ذلك وجد هناك عدداً من القلاع والأبراج الخاصّة بالمراقبة، بالإضافة لوجود محكمة، وكما أنّ الحمامات فيها كانت مزوّدة بنظام لتسخين، ولا تخلو هذه المدينة ومبانيها من الفسيفساء، والنقوش، والنحت، والتماثيل، وهناك أيضاً عملات معدنيّة.
استخدمت مملكة الحضر أو عربايا شعار الصقر كرمز لمدينتها، وهو يرمز لمدى قوّة، وهيبة، ومكانة هذه المدينة، وأنّ حكامها أقوياء. معظم من عاش وسكن في الحضر هم من العرب، وهناك عدد من الآراميين والذين تركوا أثراً كبيراً على هذه الحضارة من حيث اللغة باللفظ والكتابة وكما أثروا في معتقدات هذه المملكة. أمّا عن الدين فقد كان سكان الحضر وثنيين يعبدون الآلهة ومنها اللآت والشمس أو شمش وذلك كناية عن الحقيقة المطلقة، واعتبروا أنّ الشمس هو الإله الأكبر وتخيلوه على هيئة شخص كبير في السن، وكهل، وعاقل، وهذا ما وجد في رسوماتهم في المعبد الكبير، وفيما بعد تحوّل سكان الحضر إلى الديانة المسيحيّة، وكان يسود هذه المملكة الحكم الديمقراطي حيث يحق للجميع إبداء الرأي، فلم تقتصر عبادة الشمس على مملكة الحضر وحسب بل كانت أيضاً من الآلهة التي عبدها العرب في منطقة شبه الجزيرة العربيّة وتحديداً في الشمال منها بالقرب من حضارات بلاد ما بين النهرين والهلال الخصيب، ولكن ما اختلف هو التسميّة المُتخذة لهذا الإله، وقد اعتبر العرب أنّ الإله شمش هو إله ذكر وليس أنثى. وأمّا الإله بعل سمين أو كما يعرف باسم بعل شمين فهو بالنسبة للعرب في مناطق الجنوب رب السماء وهو شبيه بإله أهل الشمال فقد أخذت عبادته عنهم.
ومن الكتابات التي وجد على المباني أشارت إلى أنّ سنطروق هو ملك العرب، وكان يعرف في التاريخ العربي باسم ساطرون. وقد كان الرومان والفرس كعادتهم يحاولون غزوها والسيطرة على هذه المدينة كما فعلوا مع غيرها كما مدينة بابل وسلوقية، إلا أنّ أهل هذه المدينة دافعوا عنها بكل قوتهم وأفشلوا هذه الغزوات أكثر من مرّة، وروي أنّهم كان يستخدمون أقواساً مركبة أي أنّها تُستخدم لإطلاق سهمين في نفس الوقت. وقد روي قصة خيانة ابنة سنطروق أو ساطرون لوالدها، وتقول هذه القصة أنّ ملك الفرس سابور حاول غزو الحضر واستمر حصاره لها سنتين، وفي يوم من الأيام نظرت ابنة ساطرون إلى سابور ورأت من مظهره، وملابسه، وتاجه المذهّب والمزيّن بالياقوت، والزبرجد، واللؤلؤ ما جذبها إليه وأبهرها، فأرسلت له أحد خدمها وسألته إن كان سيتزوجها إذا فتحت له باب القصر فأجاب بالموافقة، وكان الملك ساطرون قد تعود أن يشرب ويسكر كل ليلة وفي أثناء ما هو نائم وبعد أن سكر تسلّلت إليه وأخذت مفاتيح باب الحضر من تحت رأس أبيها وأرسلته مع أحد خدمها ليفتح الباب، وعندها دخل سابور وقتل الملك ساطرون ودمّر الحضر، وتزوج ابنة ساطرون بالفعل وفي يوم من الأيام لم تكن تستطيع الابنة أن تنام فأتوا لها بالشمع المضاء لترى ما المشكلة بفراشها وعندما فتّشت فراشها وجد ورقة من شجر ذي رائحة طيّبة وهي شجرة الآس، فسألها سابور: أهذا ما أرق نومك فقالت له نعم، فسألها: ماذا كان أبوك يفعل لك، قالت: كان يفرش لي الحرير والديباج ويسقيني الخمر ويطعمني من المخ، فقال لها: وهل جزاء والدك ما فعلت به، فقام بربطها من قرون رأسها بذيل الفرس واستمرّ الفرس بالركض حتى ماتت.
وبالنظر إلى التاريخ العريق للشرق الأوسط بشكلٍ عام وللوطن العربيّ بشكلٍ خاص، نرى أنّ من عاشوا يوماً ما على هذه الأرض امتازوا بالقوة، والذكاء، وبمقدرتهم على الصمود أمام من يحاولون غزوهم باستمرار، ونرى ذلك من قدرة أهل الحضر على الصمود أمام حصار الفرس الذي استمرّ ما يُقارب السنتين، والذي لولا أن سنحت لقائدهم الفرصة لاستخدام الخدعة والحيلة من خلال ابنة الملك ساطرون لكي يتمكّن من دخول المدينة واجتياز أبوابها وأسوارها المنيعة لما استطاع فعل ذلك.