العلاقة بين الفكر و العواطف
(1)العقلانية هي التفاعل السوي بين الفكر والعواطف يظن الكثيرون أن أنماط التصرف المفيدة للمجتمع مردها للفكر المنطقي البشري. ويرى المفكرون أن عكس هذا هو الصحيح فلولا العواطف التي سبقت الفكر المنطقي واللغة لما نشأ مجتمع ولما بقي إنسان. ينادي (روسو)بتفوق العواطف على الفكر الخالص وغيره يتشبث بالعكس، حتى جاء “كانط “فأراد بفلسفته الشهيرة التوحيد بين العواطف والفكر، وإنقاذ الإيمان من الفكر المجرد ، والعلم من تشكيك المتعصبين ضد العلوم الطبيعية، ونفور الفلاسفة من العواطف يعود إلى أنها وراء الأهواء التي آذت الإنسان واختلاط العواطف أو الإحساس بالفكر الخالص يشوه التصرف والمعرفة.
ربما إن عدم القدرة على العزل بين العقل والفكر والعاطفة نابع من إغفال المعاني الصحيحة لمصطلحات استعملها فلاسفة كبار مثل كانط حين تحدث عن الخليقة وآلة النهي والأمر فإنه استعمل الكلمة الألمانية(Vernunft) التي تشمل معان كثيرة (التفكر المقرون بالفهم والتقدير) وأي ترجمة لها بالإنجليزي مثل (Reason)ينبغي أن تحمل نفس التوازن بين الفكر والعاطفة (العقل) . وكانط لا يتصور أن يؤذي إنسان أخاه ويفتعل الشر. واستعملت العرب كلمات (العقل، نهى، حجر)لتدل على ضرورة الردع عن الشطط. وإن الفكر المجرد من العاطفة هو (إنحراف عن العقلانية). ميز كانط بين المصطلح المذكور وبين ملكة التخيل أو التفكر (understand,intellect) التي تصوغ الفكر وتطلب المعلومات، بينما يسعى العقل وراء المعاني والتبصر، الفرق كبير بين فكرة ومعناها والإنسان لا يحيا بلا سعي نحو المعنى، وإن كان سعيه أحياناً بلا منفعة عملية أو حس عملي (Commonsense) .
والدماغ يعمل بوحدة لا تفصل بين فكر وعاطفة ولا يستقيم الفكر الخلاق إلا باقترانه بالعاطفة والعزم). وفي الدماغ مواد مثل انكفالين تكفل له السكينة لكي يتم التوازن بين الفكر والعاطفة. صياغة الفكر إذاً عملية عصبية فسيولوجية مجردة من القيم كأي عملية طبيعية، فالأمر والنهي ليس منوطاً بالفكر ولا يقرر الفكر الهدف ، لأن هذه أمور تصدر من الشخصية المركبة من عناصر كثيرة كتجارب النشأة للشخص وما اقتبسه من تعلم وتمثل خلال فترة نضجه، فيحفز الحلال والحرام في الدماغ ويرمز لهذه الأمور بالضمير.
يتعلم الإنسان أحكام الخليقة قبل أن يكتمل فكره، ومن صفات الدماغ أنه يعمل بالقياس على ما اختبره في الماضي، وما ترسخ فيه بالإعادة والاعتياد ، فالخبرات الماضية والدفينة هي مقياس التصرف الحاضر، وهنا أحكام الأمر والنهي. يتصرف الإنسان وما يرضي ضميره. يقول روسو (الضمير هو دليل الإنسان) ويؤيده نيومن(يفضل الإنسان التصرف الخاطىء على الصواب، إذا رضي ضميره ولو دله المنطق على خطأ عمله وأرشده للصواب بالرغم من ذلك لا يستطيع المنطق تغيير التصرف) صحيح أن الوالدين هما أول منبع للضمير لكن صغير اليوم يتأثر بما أدخلته التقنية التلفزيونية مثلاً من أمور تستهوي الناشئة، فتتمثل بها، أو تختزن مؤثراتها من غير وعي . ومقاييس الضمير تدخل في أمور ذوقك ومشربك ورأيك في أمورمبتذلة وأمورجليلة. وهكذا يكون لكل شخص هداه.
يرى فرويد الشخصية السوية كتوازن بين كيانات ثلاثة متآلفة، سماها (إد، إيجو، سوبر إيجو). وهي مصطلحات لعمليات العواطف (الغريزة) والفكر والضمير. والعواطف قابلة للتعديل باطناً بضوابط عصبية ومؤثرات هرمونية ومعدلة ظاهراً بقوة الفكر . العواطف تطلب ارتواء أبداً لكن الإنسان لا يخضع بسرعة لطلب العواطف ، التي لا يقبل بغيتها إلا بالتدبير الفكري. وإذا كان الإنسان مدفوعاً لعمل نبيل بعواطفه لا بالفكر الخالص ، فإن هذا لا ينبغي أن يقلل من بطولته أو نبله لأنه لم يخسر ، بأنه قام بذلك حراً وطوعاً ولم يكن مجبراً على ذلك بأثر عواطفه فقط. والدوافع غير الأسباب، والعواطف وحدها غير مهيأة لتنفيذ التصرف، وهكذا يكون للإنسان مشيئته من غير انتقاص لمآثره.
ملخص: لولا العواطف التي سبقت الفكر المنطقي واللغة لما نشأ مجتمع ولا بقي انسان. الدماغ يعمل بوحدة واحدة لا تفصل بين فكر وعاطفة، ولا يستقيم الفكر الخلاق إلا إذا اقترن بالعاطفة(العزم). صياغة الفكر عملية عصبية فسيولوجية مجردة من القيم كأي عملية طبيعية والفكر وحده لا ينهي ولا يأمر ولا يقرر الهدف. الإنسان يتصرف بما يرضى ضميره ولو دله المنطق على خطأ عمله وأرشده إلى الصواب.
• (قوة العواطف في تعطيل التفكير) (2)الذاكرة العاملة مصطلح يطلق على التعبير عن القدرة على اختزان الوقائع المهمة في العقل لإنجاز مهمة ما أو مشكلة مفترضة. والجزء المسؤول عن الذاكرة العاملة هو العشرة الأمامية في المخ ويعني مسار الدوائر العصبية من المخ الجوفي إلى الفصوص الأمامية.
إن إشارات الانفعال مثل القلق والغضب وما شابه يمكن أن يخلق تجمداً عصبياً يدمرقدرة الفص الأمامي على الاحتفاظ بالذاكرة العاملة. والضغوط الانفعالية تؤدي إلى عدم التفكير السليم والعجز عند بعض الأطفال في قدراتهم الذهنية، وقد تعوق عن التعليم وقد لا تسجل اختبارات معامل الذكاء I.Q هذا العجز عندما يكون مموهاً على الرغم من ظهوره في المقاييس الستيو عصبية، (الثيوروسيكوجية) مثل ظهوره في صورة مؤثرات واندفاعات مستمرة للطفل. حصل تلاميذ في اختبارات معامل الذكاء على درجات فوق المتوسط ويعانون مع ذلك من ضعف مستواهم الدراسي.
ثبت من خلال التقييم التيوروسيكولوجية الأكثر تحديداً للهدف أن أداء قشرتهم المخية الأمامية غير سليم، كما اتضح أنهم متهورون ، قلقون، متورطون في مأزق معظم الأحيان . وهذا يوحي بخطأ تحكم القشرة الأمامية في قوة الإثارة وعلى الرغم من قدراتهم الذهنية إلا أنهم يتعرضون أكثر من غيرهم لمخاطر شديدة في الفشل الأكاديمي والجريمة ليست بسبب ضعف قدراتهم الذهنية بل لضعف قدراتهم على التحكم في حياتهم الانفعالية. ذلك أن الإنفعالي منفصل تماماً عن القشرة المخية التي تحددها اختبارات معامل (I.Q)هذا المخ الانفعالي يتحكم في انفعالات الغضب والحنان على حد سواء وتصل الدوائر العصبية المختلفة بالانفعالات من خلال التجارب طول مراحل الطفولة ويعتبر ترك هذه الخبرات لعامل المصادفة أمراً في غاية الخطورة علينا.
المصادر :
1.د. إبراهيم فريد الدر- الأسس البيولوجية لسلوك الإنسان، دار الآفاق الجديدة بيروت، ط1 1983، ص344-347 بتصرف.
2.د.محمد عبد الهادي حسين- تربويات المخ البشري،ط1 2003م ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ص378.