مزمل أبو القاسم: الخصم الشريف والتوجه المعيب
* كتبنا من قبل أن النيابة العامة استحقت لقب (الخصم الشريف)، بحسبانها الضامن الأول لتحقيق العدالة، ولأنها ترعى حقوق المتهمين، وتمنع انتهاكها، وتصون مبدأ (المتهم بريء حتى تثبت إدانته)، مثلما تحرص على توفير الأدلة اللازمة لإدانة من ينتهكون القانون.
* حمدنا للدولة حرصها على توفير المزيد من الاستقلالية للنيابة، بفصلها عن وزارة العدل، تعزيزاً لسلطات النائب العام، وتقليصاً لتأثير السلطة التنفيذية عليه، وكان العشم أن تتسع تلك الرؤية الاستراتيجية، لتبلغ مرحلة الاستقلال الكامل للنيابة عن كل أجهزة الدولة، صوناً للمهنة الشريفة من أي تأثيرٍ سالبٍ عليها.
* لذلك لم نهضم القرار الذي قضى بمنح النيابة نسبة (20%) من حصيلة ما تسترده بتسوياتٍ تبرمها مع المتهمين في قضايا الفساد.
* من شأن تلك الخطوة أن تقضي على استقلالية النيابة، لأنها تمنحها مصلحةً مباشرةً في قضايا قانونية تدخل هي طرفاً أصيلاً فيها، ذلك بخلاف أن تسويات التحلل نفسها حظيت باستنكارٍ واسع، لأنها انتهكت كل مبادئ العدالة، وسمحت للمعتدين على المال العام بالإفلات من العقاب، ومكنتهم من الاستئثار بمعظم منهوباتهم.
* كما ذكر الأستاذ سيف الدولة حمدنا الله، فإن قانون المحاماة يحظر على المحامين ربط أتعابهم بحصائل الدعاوى التي يترافعون فيها، كي لا تصبحللمحامي صاحب مصلحةً شخصيةً في كسب مُوكِّليه للقضية، لأن ذلك سيشجعه على انتهاج أساليبٍ غير شرعيةٍ، تُؤثِّر على العدالة، مثل اختلاق البيِّنات، أو تلقين الشهادة للشهود، وما إلى ذلك من مخالفاتٍ، تتنافى مع مبادئ المهنة ومقاصدها وأخلاقياتها.
* إذا كان المحامون ممنوعون من تحديد أتعابهم بنسبٍ مئويةٍ من محصلة الدعاوى التي يترافعون فيها، فمن باب أولى أن يشمل ذلك الحظر وكلاء النيابة والقضاة قبل المحامين.
* من شأن القرار المعيب أن يشجع النيابة على إبرام تسوياتٍ ماليةٍ في قضايا التعدي على المال العام (كما حدث مؤخراً)، بدلاً من السعي لإدانة من تتوافر في مواجهتهم بيِّناتٍ وأدلةً تستوجب إحالتهم إلى المحاكم، والمطالبة بإيقاع أقصى العقوبات عليهم.
* التسويات التي تبرم مع تماسيح المال العام مستنكرة في مجملها، ومعيبة في باطنها وظاهرها، حتى ولو أفلحت في استرداد كامل المسروقات، لأن كل القوانين التي تحكم التعامل مع المال العام حرصت على تشديد العقوبة على المدانين، لتشمل مصادرة الأموال المنهوبة، وسجن اللصوص، وتغريمهم مبالغ تتناسب مع ما نالوه بغير حق.
* ذلك بخلاف أن مبدأ العقاب في حد ذاته يصون العدالة، ويجعل المدان عبرةً لغيره، ويصبح كابحاً لكل من تسول له نفسه التعدي على المال العام.
* حصول النيابة على نسبة (20%) من تسوياتٍ تتم بقانون (المرأة المخزومية) يزدري كل قواعد العدالة، ويحوي خطراً داهماً على مهنةٍ شريفةٍ، أوكل إليها القانون مهمة الحفاظ على المال العام، وملاحقة سارقيه، لإحالتهم إلى المحاكم، لإنزال العقاب المناسب بهم.
* لا يمكن لتلك المقاصد أن تتحقق بقرارٍ معيب، يمنح النيابة مصلحةً بائنةً في إبرام التسويات، بخلاف أن تلك الاتفاقات المستهجنة تتم في مناخٍ يفتقر إلى كل مقومات العدالة، لأن المتهم نفسه يكون في موضع ضعفٍ، يمكن أن يجبره على قبول أي تسويةً تُعرض عليه، حتى ولو كانت ظالمةً له.
* لن يستحق (الخصم الشريف) تلك الصفة إذا قبل لنفسه أن يحقق مكاسب ذاتية من القضايا التي تعرض عليه، إذ لا يستقيم عقلاً ولا عدالةً ولا منطقاً أن يعمل رجل القانون المكلف بإحقاق الحق بعقلية (السمسرة)، فيبرم الصفقات، ويحدد النسبة التي تخصه، في قضايا تتعلق بمالٍ عامٍ، مملوك للمرضى والفقراء والمساكين.
* نتوقع من لجنة التشريع والعدل في البرلمان أن تجهر بالحق في مواجهة ذلك التوجه الغريب، وهي تضم قاماتٍ قانونيةً سامقةً، لن يرضيها أن تنتهك استقلالية النيابة، وتُنتهك العدالة جهرةً، ويُزدرى القانون.