بائعات الشاي.. الاقتراب من نار المعاناة……
السودان اليوم:
حتى نتمكن من تقصي واقع مهنة بائعات الشاي بالعاصمة الخرطوم، كان علينا امتهان ذات المهنة في أسواق ومواقع مختلفة، نستطيع التأكيد على أن التجربة كانت حافلة بالحقائق والمعلومات التي تستحق التدوين والتوثيق لجهة أن العاملات في هذا المجال يواجهن معاناة غير خافية تلمسناها بل تجرعنا كأسها، ونحن نجلس خلف الموقد ونتعامل مع زبائن مختلفي الأمزجة والاتجاهات.
نقطة البداية
اخترنا أن تكون البداية بالسوق الشعبي أم درمان المكتظ ببائعات الشاي وبالزبائن، شابة في العقد الثالث من عمرها رتبت لنا موقعاً مميزًا واستعانت بأدوات إحدى زميلاتها التي غابت في ذلك اليوم عن العمل لظروف خاصة، إذاً فقد نجحنا في الحصول على الموقع والأدوات المطلوبة وكذا المقاعد التي يجلس عليها الزبائن، جلسنا فترة من الزمن في موقع يقع وسط سوق أم درمان وتحديداً بالقرب من معارض الأثاثات المنزلية، جلسنا لأكثر من ثلاث ساعات، ولكن كان الإقبال ضعيفاً، ولم تبع إلا لثلاثة زبائن كانوا في عجالة من أمرهم، وحينما بلغ بنا الملل مبلغاً عظيماً في ظل ضعف القوة الشرائية، هممنا بالمغادرة، إلا أن “نعمة” وهي بائعة الشاي التي استضافتنا طالبتنا بالانتظار وعدم التعجل، وقالت لنا: “مهنة بيع الشاي عاوزة صبر”، وأشارت إلى أن ضعف الإقبال على احتساء الشاي والقهوة وغيرهما من مشروبات جعلها تفكر في الاتجاه للعمل في بيع الأطعمة، وجأرت بالشكوى من الواقع الاقتصادي وعدم قدرتها على توفير احتياجات أطفالها، غير أنها أشارت إلي أن متوسط دخل بائعات الشاي في اليوم لا يقل عن مائتين وخمسين جنيهاً، وقد يرتفع إلى ثلاثمائة جنيه، ولكنها قطعت بأن هذا المبلغ غير كافٍ لمواجهة متطلبات الحياة، بعد ذلك حضر أكثر من زبون لتناول الشاي، واحد منهم كأنما شك في أمرنا، وقال “شكلكن أول مرة تشتغلن شاي”، لم نشأ الرد عليه، في هذا المكان فإن الزبائن كانوا ودودين فقد تعاملوا معنا باحترام وأريحية.
محاولة بالكلاكلة ورفض
في اليوم الثاني من جولاتنا، توجهنا ناحية سوق الكلاكلة بمحلية جبل أولياء في واجهة سوق الكلاكلة اللفة، وفي الطريق المؤدي إلى حي القبةـ اخترتنا موقعاً يكتظ ببائعات الشاي وضجيج ورش إصلاح السيارات بجانب الركشات، جلسنا بالقرب من بائعات الشاي لتلمس كيفية تعاملهن مع الزبائن، اخترنا أن نعرفهن بأنفسنا ورغبتنا في العمل في بيع الشاي بالقرب منهن، ولم نكشف عن هويتنا الصحفية، فكان أن وجدنا رفضاً من بعضهن، فيما وافقت آخريات يبدو أنهن قد أخذتهن الرأفة بنا، وبالفعل في اليوم الثاني أحضرنا المعدات المطلوبة، وجلسنا وسطهن ولم نشعر بالرغبة في وجودنا، ولكن من أجل إنجاز مهمتنا لم نعرهن اهتماماً.
الحقائق تتكشف
من خلال تواجدنا اكتشفنا حقائق تبدو غريبة بعض الشيء، منها أن المحلية تتولى مسؤولية جلب المعدات بواسطة شاب يحمل لقب اللمبي، وعرفنا أن جهة حكومية تستأجر لبائعات الشاي الكرسي الواحد في اليوم بواقع ثلاثة جنيهات، بالإضافة إلى عشرة جنيهات للطاولة التي يضعن عليها أواني الشاي، بخلاف ذلك، فإن المتعهد يتحصل من بائعات الشاي رسوماً شهرية تبلغ 62 جنيهاً بوصفها رسوماً للنفايات، وكذلك فإن بائعة الشاي مطالبة سنوياً بالحصول على تصديق مزاولة العمل بمبلغ ألف جنيه من المحلية، لذا فقد طالبتنا نادية وهي بائعة شاي في ذات المكان باستئجار الأواني والمقاعد من تلك الجهة، ولأننا لم نكن نملك المال الكافي لاستئجار الأواني لم نجد غير العودة إلى نادية التي طلبنا منها أن تعيرنا بعضاً من الأواني، وبالفعل وافقت على أن نمنحها قسطاً من المال الذي نتحصله، ولكن وجدنا صعوبة بالغة في العمل لعدم خبرتنا، وهذا جعل عدداً من الزبائن يتهموننا بعدم إجادة العمل خاصة صنع القهوة، عموماً تحملنا هذه الاتهامات الى أن انتهى اليوم، ونحن نهم بالمغادرة التقينا الشاب المسؤول عن الإيجار وأخبرناه برغبتنا في العمل في اليوم التالي، وطلبنا منه معدات وأواني فوافق وطالبني بالجلوس بشارع القبة بدعوى وجود عدد كبير من الزبائن، غير أنه أفادنا بأن إيجار دستة الكراسي في اليوم تبلغ 36 جنيهاً و12 جنيهاً للطاولة وصندوق حفظ الأواني بعشرة جنيهات، ولكن في اليوم الثاني لم نعد مرة أخرى إلى سوق الكلاكلة.
بحري والكشة
في سوق بحري لم نجد صعوبة في مزاولة مهنة الشاي بعد أن سمحت لنا حواء بالجلوس في مكانها لأنها كانت بصدد زيارة مريض بمستشفى إبراهيم مالك، وقبل ذهابها شكت من معاناتها مع هذه المهنة خاصة الكشات التي قالت إنها تؤثر على عملهن كثيراً، وهو الأمر الذي يجبرهن على إجراء تسويات ودفع غرامات تبلغ 170 جنيهاً، وقالت إن من تريد العمل عليها دفع مبلغ للتصديق بالعمل، بعد ذهابها عملنا على بيع الشاي، ولكن لم نشعر بالراحة لوجود عدد كبير من الشباب الذين كانوا يتلفظون بألفاظ نابئة وهم يتجادلون في موضوعات مختلفة، خاصة الرياضية، وشعرنا بضيق من انبعاث دخان السجائر الذي كانوا يتعاطونه بشراهة، وواصلنا العمل إلى أن حضر شخص يرتدي نظارات سوداء وسألني عن اسمي لأنني ساعتها كنت أجلس في مكان بائعة الشاي، وأخبرته بأن اسمي “مياه النيل” فنظر إلى ورقة كان يحملها وقال لي إن اسمي غير مدون وطالبني بعدم العمل في اليوم التالي إن لم أستأجر الأواني منه، وأشار إلى أنه المتعهد.
ود العقلي والعودة للعربي
جولتنا الثالثة كانت بشاطئ النيل المطل على منطقة ود العقلي بالكلاكلة، حيث يكتظ المكان بعدد كبير من المواطنين الذين يحضرون للترفيه، ولكن لم أجد ترحيباً من بائعات الشاي، كما أن أحد الشباب وحينما عرف أنني أريد العمل أخبرني بأن هذا الأمر ممنوع، وطالبني باستئجار الأواني لأنه متعهد قد حصل على عطاء الموقع من المحلية، لم نجد غير العودة إلى الركشة التي أحضرتنا وكنا نضع داخلها الأواني، بعد ذلك توجهنا ناحية السوق العربي وبميدان جاكسون جلست بالقرب من بتول التي وبعد تجاذب أطراف الحديث معها عرفت أنها تعول عددا من الأيتام، وذات الأسطوانة وجدناها هنا بعد أن أفادتنا بأن جهة حكومية تفرض على بائعات الشاي استئجار الأواني والمعدات منها، وأنه إذا لم نفعل ذلك سيتم تغريمنا مبلغ ألف جنيه، وفي حالة عدم الدفع فإن العقوبة ستكون السجن لشهر، وكشفت عن وجود شاب يعمل معهن لأداء مهمة إخبارهن بالكشة وموعدها ونظير ذلك يمنحنه مالاً محدداً، ورغم ذلك وأثناء وجودنا حضرت عربة المحلية وبدأ العمال في ركل الأواني فلم نجد غير الهرب.
أما بسوق جبل أولياء فقد واجهتنا ذات المشكلة، حينما رفضت بائعات شاي السماح لنا في محل اخترناه، وكان بعيداً نسبياً عن بائعات الشاي وادعت أن الموقع يعود إلى زميلتها التي ستحضر في أي وقت، وعلى شاطئ النيل بالقرب من خزان جبل أولياء واجهتنا ذات المشكلة، ولم يسمح لنا بالجلوس في المكان، وعرفنا أن الرسوم في الشهر تبلغ 300 جنيه، كما أن الغرامة التي يتم فرضها على بائعة الشاي التي تعمل بدون تصديق والتي تعمل في أوقات الصلاة أو تتجاوز الزمن المسموح به للعمل تبلغ ثلاثة آلاف جنيه.
قوانين الغابة
تركنا خزان جبل أولياء وتوجهنا صوب شارع الغابة حيث الصيد السمين هنالك، جلسنا بجانب امرأة أرملة بدأت تسرد لنا قصتها حول عملها بشارع الغابة منذ عشرة أعوام، وقالت: في السابق كنا نعمل دون فرض رسوم ولكن بعد أن تحولت الغابة إلى منطقة ترفيهية تم فرض مبلغ 200 جنيه شهرياً كرسوم تدفع لاستئجار الأرض، فيما يتراوح سعر إيجار الكراسى يومياً بين (100 إلى 150 جنيهاً)، ومن التكاليف الأخري شراء الثلج ووجبة الفطور، وقالت إن ظروفهن هذه الأيام صعبة لأنهن يتحملن الصرف على من الأبناء في مراحل التعليم المختلفة، لافتة إلى أن الكثير من المشاكل تحدث بين بائعات الشاي وتصل بعضها إلى ساحات المحاكم، لافتة إلى أن القوانين في الغابة صارمة ومن تخالفها تفرض عليها غرامة تبلغ ثلاثة آلاف جنيه، وقالت إن الحملات لا تتوقف، ونصحتنا بعدم العمل في الغابة لوجود مخاطر كبيرة علينا.
أرقام وأعمال
وفى هذا الصدد، يقول ميسرة محمد عبد الله مدير الهيئة القومية للغابات إن الغابة لا تتأثر بعمل الشاي، وإن هنالك خدمات تقدمها الغابة لحوالي 120 عاملاً بينهم بائعات شاي برسوم رمزية، وقال إنهن لا يتعرضن لأي مضايقات، وقال إنهم بصدد تشييد مكان ثابت لبائعات الشاي وفقاً لدراسات، رغم التكلفة الباهظة، مبيناً أن عدد الأشجار داخل الغابة تصل إلى 2,130 شجرة واعتبره معلما سياحياً بارزاً يحتاج إلى اهتمام متواصل، وهنالك طواف حول الغابة، وأضاف أن المشكلة التي تواجههم من زوار الغابة وليس بائعات الشاًي.
تناقض أقوال
بعد ذلك، استنطقنا عدداً من بائعات الشاي حول مهنتهن، وتقول سلمى بائعة شاي بالخرطوم بأنه يوجد تناقض بين أقوال المسؤولين في وسائل الإعلام وأفعالهم على أرض الواقع، وتلفت إلى أن السلطات تمارس أسلوب القمع والإرهاب عليهن، واعتبرت سلمى ذلك إهانة واضحة وانتهاكاً لحقوق الإنسان بصورة عامة وحقوق المرأة بصورة خاصة، مشيرة إلى وجود عدد من الرجال يعملون في بيع الشاي لا يتعرضون لمضايقات.
حديث الأرقام
وبحسب جولة “الصيحة”، فإنه توجد (30) ألف سيدة بائعة في الخرطوم تستفيد منهن المحليات، حيث يرفدن خزينتها بمبالغ يومية ضخمة لا تقل في المحلية الواحدة عن ستين ألف جنيه، وهي مبالغ بحسب البعض كافية لإنهاء معاناة هؤلاء النسوة عبر تخصيص أماكن ثابتة وآمنة بعيداً عن أماكن الخطر كالطرقات، وعلى جوانب الشوارع الرئيسية والسريعة ومواقف السيارات.
وكشف تحقيقنا أن معظم بائعات الشاي يقمن بوضع الطوب لجلوس الزبائن بدلاً من استئجار الكراسي، لأن دخلهن اليومي لا يكفي لذلك.
ومن الحقائق التي توصلنا إليها من خلال هذا التحقيق، أن المحليات تفرض رسوماً وغرامات باهظة على بائعات الشاي يعجزن عن تسديدها، أو تكون سبب في ابتعادهن عن هذه المهنة، والذي وضح لنا كذلك أن 805 من بائعات الشاي أرامل يعلن أيتاماً، كما أن جهة رسمية إدارية تفرض عليهن استئجار الأواني والمقاعد، وهذا يضاعف العبء عليهن، إضافة إلى معاناتهن من الكشات المتواصلة.