(عُولاقَ) الخِدْمَة..!.. بقلم عبد اللطيف البوني
السودان اليوم:
(1)
كثر الحديث هذه الأيام عن المُفارقة بين ما يتقاضاه العَاملون في الخدمة العامة بشقّيها المدني والعسكري من مُرتّباتٍ وتَكاليف المَعيشة، فهناك دراسة نُسبت لجهات رسمية تقول إنّ الحد الأدنى للمُرتبات يجب أن يكون فوق الثّمانية آلاف جنيه ليفي بالحد الأدنى من مطلوبات المعيشة!! عليه يصبح الحد الأدنى من الأجور الحالي يفي بأقل من سبعة في المائة من مُتطلبات الحياة الضرورية، وهناك أنباءٌ عن تَسرُّبٍ كَبيرٍ في قُوّات الشُّرطة أنفاراً وضباطاً لضعف المرتبات، ومع ذلك بعض المُؤسّسات شبه الرسمية رفعت شعار الهيكلة وهو الاستغناء عن عددٍ كبيرٍ من العاملين فيها لتعود مرتباتهم لمن تبقى في الخدمة عسى ولعلّ أن يقرب ذلك الشقة بين المرتبات وتكاليف المعيشة، هذا في القطاع العام!
أما القطاع الخاص فالحال ليس بأحسن من القطاع العام، فانهيار الجنيه السوداني هو انهيارٌ للبيت السوداني فوق رؤوس الجميع ومع ذلك ففي القطاع الخاص شَيءٌ من المُرونة وبالتّالي القُدرة على المُواكبة خَاصّةً لأصحاب المهن عالية الفنيّات وظائف كانت أم حرفاً.
(2)
هُناك دَاءٌ أصبح مُستفحلاً في الخدمة العَامّة أدّى إلى المزيد من التّدهور فيها، فعلاجه لن يحل المُشكلة نهائياً، لكن ربما يُقلِّل منها هذا هو ما اصطلح عليه بمخصص وظيفة وهو عبارة عن الامتيازات التي تُمنح لمن يجلسون على قيادة الخدمة العَامّة في كثيرٍ من المَرافق، فهذه الامتيازات تجعل الفرق كَبيراً جداً بين تلك القيادات وبين من يلونهم في التّرتيب الوَظيفي، بينما لَو تَمّ تقسيم تلك المُخَصّصَات الوظيفيّة على جَميع العَاملين في المَرفق سوف يحدث فرقاً في الأوضاع.
بَعيداً عن التّجريد نُعطي مثالاً لذلك الذي يقف على رأس العمل سِمِّه المُدير أو الرّئيس أو القَائد في مَرفقٍ تجد مُخصّص الوظيفة مُضاعفة الراتب وعربة بوقودها وربما سائق وعدة بدلات ونثريات مَكتب وحَوافز اجتماعَات وبدل سَفريات كُل هذا يجعله قد خرج من نطاقٍ ذوي الدخل المَحدود وتجد الفرق بينه وبين الذي يليه كبيراً جداً، خَاصّةً في المُؤسّسَات الإيرادية وتلك التي لديها فُرصة (استنباط موارد)، فإذا قُسِّمت تلك المُخَصّصَات المهولة التي تتقاضاها القيادات على بقية العاملين في المُؤسّسة ربما قَلّلت بعض الشيء من فقر القواعد.
(3)
إنّ بدعة المُخصّصات جعلت شكل الخدمة العامة قبيحاً جداً، رأس كبير مُتضخِّم وجسمٌ هزيلٌ وأرجل كالمساويك تنطبق عليها الأهزوجة الشعبية (راسه كبير وكرعيهو رقاق مِمّا سموه سموا العولاق)، هذا التشوُّه أضَرّ كثيراً بالخدمة العَامّة، إذ أكثر فيها النِّفاق والدّفن والحَفر للظفر بالوظيفة القيادية المُغرية، كما أنّه زَادَ من عَمَليّات الاستنباط خَاصّةً في المرافق الخدمية، وزاد من عمليات التجنيب، والأخطر من ذلك أنه جعلها مُسيّسة، فطالما أنّ الوزير هو الآمر والناهي، فأصبحت تلك الوظائف القيادية خَاضعةً للولاء والمزاج السِّياسي ففقدت الخدمة العَامّة نزاهتها وحيدتها، فضعفت الدولة وتضخم نفوذ الحكومة فأصبحت هي الأخرى رأساً كبيراً فوق جسمٍ هَزيلٍ، فالحل في إعادة الحيدة للوظيفة العَامّة وحمايتها من تَغوُّل الحكومة ثُمّ إعادة النظر في ما اصطلح عليه بمُخصّص وظيفة..!