شقيقْتَاه،أنتِ مُتَّهَمَةٌ بِبَيْع القَضِيَّة

ألقى الضّمير القلم بين أناملي وهو يؤزّه أزّا للكتابة عن حال المرأة المسلمة وهنا غلبتني المغالب، وحشرج الصّدر بالزّفرات والآهات ، فإلى الله أشكو واقعا بات جرحا في كيان الأمّة الإسلاميّة ، أمّة لا تستفيق من سكرات كرب سوىّ لتتلوها أخرى، ولا تجفّف عبراتها من محنة سوىّ لتفيض بعدها أمطار جارفة الدّمع …
لكم يؤسفني أن أشاهد أعداءنا وهم ينضحون غليل أكبادهم بمنظر هذه المسلمة التي قد طمس الهوى على أذنيها فهي صمّاء لا تسمع سوىّ بأذنين لقيطتين استعارتهما من براثن التّحرر …
وهي ضريرةقد نسج الضّياع على عينيها فلا تبصر سوىّ بعينين مسروقتين من وهم السّعادة …
تعسا للسّعادة إن كانت تعني اعوجاج أجسادٍ كالثّعابين تنفث سُمّها على كلّ غاد ورائح !
وسحقا للتحرّر إن كان مفهومه تمزّق شرايين قلب أمّتنا ليخيط بها الغرب ثوب انتصارهم علينا ، لا مكنّ الله لهم !
أي نعم ، إنّ تلك المرأة صمّاء ضريرة غير أنّ لسانها شديدّ فلا يجرأ واحد من أن يقارب مقدّساتها الفكريّة المتعّفنة، وإن إجراء فليعلم أنّ لها في الخطاب باعا لا يطاله أهل الخطاب !
ولا عجب فإنّ المسلسلات لم تقصّر في تأديبها وملأ قاموسها الفكري بفنون ردّ الحقّ والدّفاع عن الباطل…

لن أطيل الجديد عن حال الملايين من فتيات جلدتنا الضّريرات الصّماوات فحالهنّ ليس يخفى على واحد من إلا أنّي قصدت بذلك التّقديم أن ألتفت إلى هذه الثلّة التي يظنّ بها خيرا من المسلمات اللّواتي لبسنالالتزام ثوبا إلا أنّهنّ آثرن التّقوقع على أنفسهنّ، فكم بخلن على هذه الصّماء العمياء…
أخاطبك أنت يا منعما عليك بنعمة الالتزام فأسألك أن أين أنتِ ؟
منذ أن هداك الله ذو الفضل والكرم ماذا قدّمت لدينه؟
أما جلست يوما لتحاوري نفسك وتحاسبيها ” أن يا نفس إلى أين تسيرين ” ؟
ألملم شتات أفكاري وأنا أدنىّب بصري بين الآفات التي استفحلت في أمّتنا فأرسي باخرة الوجع على واقع الملتزمات اليوم ، فأجدني ذات حزن أبكي أسفا وحسرة،وما يفيد البكاء هذه اللحظة إذا لم نتبعه بوقفةمحاسبة !

شاهدتها تمشي في واحد من شوارع المدينة فأوقفتها ومددت يدي مصافحة سلّمت عليها ثمّ دار بيني وبينها ذلك الجديد :
-أختي في الله ، كم يبهج ذلك الفؤاد أن يشاهد المسلمة قد فاض حياؤها وآثرت الاقتداء بأمهّات المؤمنين على زخارف ألبسة الفاجرات المائلات المميلات،جئتُ أسألك عن معنى الالتزام فهلاّ من فضلك أجبت ؟
-أمّا حجابي فهو فخري واعتزازي ، لو خيّروني بين التّخلي عنه وبين الوفاة لاخترت الوفاة على أن أخلعه وأمّا التزامي فلا يقصد أنّي أعيش في ظلمة وبعد عن الاستمتاع بما تشتهيه أيّ فتاةفي سنّي … التزامي لا يمنعني أن أعيش في سعادة وبهجة وسرور…
رفعت حاجبيّ تعّجّبًا ثمّ ابتسمت لأحافظ على هدوئي وسألتُها :
-و كيف تقضين يومك؟
-أقضيه بتأدية ما عليّ من واجبات تجاه ربّي ـ والتزامات في بيتي ودراستي وأمّا وقت فراغي فمع قريناتي نتحدّث عن حديث الموضة أو نتسوّق في واحد من المراكز التّجارية أو… لا أدري قد نحضر حلقة في واحد من المساجد نجدّد إيماننا… صراحة وفق المزاج !
– كلامك ذلك يا أختي يدفعني لأطلب منك جوابا دقيقا ، ما هدفك في تلك الدّنيا؟
-هدفي أن أعبد الله بالطبع !
-لا يا أختي الحبيبة ، لا أريد حلول إنشائيّة ، حاجزّدي لي ما هو المشروع الذي تعملين على تحقيقه في تلك الحياة؟
-مشروعي هو أن أكون إنسانة ناجحة في مختلفّ الساحات… وحلمي هو حلم كلّ بنت أن يرزقني اللهالزّوج الصّالح الذي يحبّني وأحبّه ، ويُكرمني أيّما إكرام ويكون عونا لي على تأسيس عائلة مسلمة ملتزمة…
-جميلْ…وكيف تنوين أن تصلي إلى تصنيع عائلة ملتزمة؟
-لا أدري… سأتعاون مع زوجي على هذا ، عندما يرزقني الله الرّجل الصّالح ستتيسّر الموضوعات وتكون الصّورة ذكر أمامي… أمّا هذه اللحظة فأنا أريد أن أستغلّ مرحلة العزوبيّة في التّمتّع بحرّيتي ، أخرج متى أشاء وأذهب إلى حيث أشاء…
أطرقتُ إطراقة تجدّدت معها الأشجان ثمّ قلت :
-أما حلمت يوما أن تكوني داعية تأخذ بيد أولئك البنات البعيدات من خلال الاستقامة؟أما يؤلمك حالهنّ؟
– مهلا أختاه ! الله سبحانه وتعالى يقول ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهتَدَيْتُم) لا دخل لي في حياتهنّ ، عليّ أن أشتغل بإصلاح نفسي ، لست أهلا لدلالتهنّ على الخير، الله هو الهادي ليس لي من الشأن شيء…
– إذن حجّتك في ترك الدّعوة هي عدم تأهّلك لخوض غمارها؟
-أجلْ ، كليا…
– إلا أن أما ترين أمامك بنات قد تألّقن في ميدان الدّعوة وصارت لهنّ بصماتُ تحويلٍ في مجتمعنا، وفق رأيك كيف وصلن إلى هذه المنزلة ؟
– ربّما لأنّهم سخّرن من وقتهنّ جزءً كبيرا لطلب العلم وتعلّم دشن الدّعوة …
-ولم لا تفعلين مثلهنّ؟
-لا وقت لديّ … دراستي تأخذ جلّ وقتي ، أريد أن أثبت أنّ الملتزمة ليست أمّيّة ، ليست مجرّد عالة على الرّجل ….
-كم يؤلمني أن تقولي ” لاوقت لديّ” وكنتِ قد أخبرتني أنّك تقضين وقت فراغك في النّزه وفضول الخطاب مع صديقاتك…
قاطعتني في موجة من الانقضاض وقالت :

-أتريدينني أن أبقى بين الكتب طول اليوم؟ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم صرح : ( وإنّ لنفسك عليك حقّا) لا أحبّ هذه المعيشة ، لا أحبّ أن أعيش في الضّغوطات ، أريد أن أكون حرّة !
-حرّة !!! أولست أمة لربّ؟
-بلى ، ولكنّ الله يعرف أنّ طبيعة النّفس الإنسّية ميّالة للذّات الدّنيا، وقد أباح لنا المرح، فلم تريدون أن تحرّموا ما أحلّ الله؟
– لست أحرّم ما أحلّ الله، إلا أنّ الله يحبّ معالي الموضوعات وأشرافها يكره سفسافها وامتنانه عليك بنعمةالهداية دليل على أنّه يرغب في بك خيرا غير أنّك بتلك الغفلة تعرّضين النّعمة للزّوال… أختي الحبيبة قد أمرك الله بالتّفقّه في دينك ، فبصدق أخبريني ما نصيبك من هذا؟
-أنا أتفقّه في ديني :أحضر الحلقات ، أسمع دروس الدّعاة ، ماذا ترغبين في زيادة عن ذلك؟
-لو كنتِ قد أصغيت قلبك إلى هذه المواعظ لما تعلّقت بالدّنيا الدّنيّة ، لو كنت قد استفدت لكان في فؤادك حرقة لواقع الأمّة ، ولكنت قد أتيت بما استطعت من مشقات لإصلاح الفساد، للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر…
تصمت في مسعى لإعداد جواب تهرب به مرّة أخرى، فأسبقها :
-أختاه، عفوا إلا أنّي أراكِ قد بعتِ القضيّةالتي لابدّ أن تقطن لأجلها كلّ مسلمة صادقة…لأنّيأحبّك في الله سأصارحك بالحقيقة التي تفرّين منها ، أنتِ وقريناتك قد آثرتنّ الدّنيا وغرّكنّ متاعهنّ، وخلتنّ الالتزام مجرّد قماش يُلبس وصلوات تؤدّى ومساجد تؤتى لاغير ،وغاب عنكنّ المعنى الحقّللالتزام الذي هو أسمى من هذا بكثير…
الالتزام مسؤوليّة معلّقة في رقبتكِ…
إلى الله المشتكى صارت التّفاهة أفضلية جمع عظيم من اللّواتي يدّعين الالتزام…
خنقني الوجع فصمتّ واحد منّث نفسي فوجدتها تقول لي:
-أصدقكِ القول يا أختي ، في مرسوم باطني أشعر أنّي أكذب على نفسي ، وعى أنّه يلزم عليّ أن أكون قدوة يُحتذى بها ، إلا أن ما هو السّبيل ؟ فما أجد في رفيقاتي سوىّ موحدّثة عن خطبة فلانة وزواج علاّنة وثراء ثالثة وتفوّق رابعة… فأميل بطبعي إلى مشاركتهنّ في هذه المعيشة ، إلا أنّ ألمي يشتدّ حين أقف بين يدي ربّي فأجد قلبي قد توفي ولا أستشعر لذّة العبادة…
-إذن هو اعتراف صادق بالتّفريط في جنب الله؟
-نعم فأنا جدّ مقصّرة…
-كلّنا ايضاً يا أختاه ، إلا أنّي أوقفتكِ اليوم لتحاسبي نفسك لعلّك تغيّرين مجرى حياتك فيخرج من عزيمتكِ نور يضيء لك دربًا لا التواء له يوصلك إلى الفردوس الأعلى…
نزلت على وجنتيها دمعات متتالية، ثمّ رفعت بصرها إليّ لتقول :
-وهل يمكنني أن أكون داعية في أعقاب هذه الغفلة التي سجنتني وبعد أن قيّدتني الدّنيا بشهواتها؟ هل يمكنني أن أكون مثل هذه الفتاة التي أراها دوما مبتسمة قلبها ينبض بالسّعادة ابتهاجا بفضل اللهواستبشارا بجزائه؟ هل حقّا يمكنني أن أتغيّر ؟
-أبشري يا أمة الله ، فالله شكور إن يشاهد صدقكيزدك من فضلهويرفع قدرك ويعوّضك خيرا كثيرا سيطرّا فاتك… وتلك مقتطفات من برقية كتبتها يوما لأخت لي في الله و هي توأم روحي أضعها بين يديك وأمضي داعية الله أن يغفر الله لي ولك وأن يستعملنا جميعا في نصرته …
كون الإنسان ذا روح تأبى التّفاهة ويجد ذاته يقطن في زمن تميّزه التّفاهة !
أقوىّ سجون الحياة أن تصبح خيبة الأمل هي ما تروي ظمأ الوجع فكأنّها تزيد من ذات الوجع معان من الوجع لا تطالها المفردات لأجل أن تصفها…
لستُ أفهم حين أدنىّب طرفي على مشهد رفيقاتي ما الّذي ران على قلوبهنّ إلى تلك الدّرجة إلى أن لم يعد لهنّ في نصرة الدّين سوىّ الشغل اليسير ؟!
أتساءل بصمت كئيب: أنّى لهنّ أن يركنّ إلى الركود ونحن في زمن التّمحيص والسّباق على أقوىّه !
ღღღ
بكلّ شجن أطارح نفسي أسئلة يضيق لها صدري…
أقول : متى تقرّ عيني برفيقة الحلم التي إذا شاهدتها رأيت الهمّة مجسّدة في شخصها ، تتنفّس همّ الدّين ، ذات روح تعشق العلم وتهيم بالدّعوة، زمانها لله لا لنفسها تقضيه في الطّلب باجتهاد يماثل اجتهاد العلماء الرّبانيّين ، ولها في الدّعوة ممارسات لا يبلغها فحول الرّجال …
أتمثّلها تمقت النّوم سوىّ ما كان لازما ، وتعاف خسارة الدّقائق فيما لا ينفع…
رفيقتي ، لها قلب لا يلقى حتفه إذا طلبنا منها الشغل في الدّعوة ليحيا نحو ورود حظوظ الدّنيا…
رفيقتي ، ذات نفس لوّامة مسارعة للإصلاح قد سطّرت لها هدفا وعاهدت الله صدقا أن تمضي إليهبخطى ثابتة لا تزيغ عن السّبيل سواء عرضت لها أشواك العراقيل أو ورود المغريات …
فهل تراني أبحث عن مُحال لم يرمه واحد من !
أم أنّ قرّة العين قريبة منّي ، ليس يمنعني من السّرور بها سوىّ لحظة صدق تأتي عليها فلا ترجع بعدها بأي حال من الأحوال إلى الدّعة والعجز مهما وقع…
على شرفات الأملْ أنتظر أن تُفي شرق أرواح الصّادقات من خلف تلك المفردات فنعتذر إلى الله معًا عن جليل تقصيرنا ، ثمّ نعزم على إصلاح ما هو آت…
والله يقول :
(فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى