جامعة الخرطوم : الزخم النرجسي و بنية وعي الخلوة
محمد عثمان (دريج)
ثلاث حقائق لابد من الإشارة إليها في مستهل هذه الكتابة:
حقيقة أولى: لجامعة الخرطوم دور رائد في تأهيل كادر يمتلك أدوات "معرفية" وعملية "متقدمة" نوعاً ما ساهمت في انخراط الكادر في الشئون الحياتية المختلفة لدولة ما بعد الكولونيالية.
حقيقة ثانية: تمثل الجامعة، بخاصة بوجودها المادي و شبكة العلاقات المختلفة و المتنوعة التي ينخرط فيها منتسبوها، تمثل موقع ذاكرة جمعية (Memory site) في غاية الأهمية، خاصة لمنسوبيها، و بالتالي ترفد الوعي الجمعي بـ"وهم" الإحساس بالتماسك و الاستمرارية عبر الزمان و المكان.
حقيقة ثالثة: للعديد ممن قد انتموا للجامعة مساهمات عظيمة في مناحي حياتية نالت استحسانا محلياً و إقليماً و عالمياً و إن لم تُشكل مثل هذه المساهمات تياراً عاماً بل ظلت مبادرات فردية.
لكننا لسنا هنا بصدد سردية تحتفي بمحاسن أو أمجاد هذا الصرح العتيق بقدر محاولتنا للمغامرة بمدخل نقدي عام نأمل أن يساهم في فضح الجامعة كـ"مكان أسطوري" فو-تاريخي لا يرضي الكثيرون من منسوبيها إلا بالنظر إليها منه/كذلك، بخاصة حملة دفوف "جميلة و مستحيلة"، و يا له من توصيف سوف نتطرق له لاحقاً! و الطريف المُبكي في الأمر هو انه بعد ثلاثين عام من الدمار و الخراب الممنهج و المقصود بواسطة عصابة الإسلاميين و من والاهم للنظام التعليمي على علاته و للسودان و للوشائج بين أمم السودان العديدة و المتنوعة التي كانت تحمل و تحمي وجداناً جمعياً كان من الممكن أن يُشكّل نواة لبناء سودان أكثر قبولاً و عدلاً و تسامحاً، لا يزال منسوبو المؤسسة المتأخرين يلهون و يترنمون بـ"جميلة و مستحيلة" و كأنهم ينتمون إلى جزيرة نفسية و عقلية معزولة و ليست من هذا العالم!
و يبدو أن حالة الاحتفاء الشبقي ، و المجاني في الغالب الأعم، بجامعة الخرطوم و بالانتماء إليها ليس أمراً جديداً، فقد رافق مثل هذا الاحتفاء هذه المؤسسة منذ تدشينها في بواكير القرن العشرين. (و يا ليت لو تلقت الدولة السودانية، الشقيقة الكبرى للجامعة _بوشيجة الأصل الكولونيالي_ القليل من ذات الاحتفاء و الدفاع المستميت عنها من أصحاب الدفوف، لربما كان قد انصلح الحال المائل و لو قليلاً.) نقول، الغرض من هذه المغامرة النقدية هو ترسيم خط عبور يخرجنا من "كولونيالية المؤسسة" و من حالة الاستكانة في فراش رومانسي مُميت و هدام لا يقود إلاّ إلى تحجيم "الفعل الإيجابي" المؤسس على "المسئولية النقدية" الذي من شأنه أن يُؤدي إلى "تحرر عقلي" و من ثم الانخراط في نشاط يهدف إلى تحقيق تغيير مُؤجل و مُرتجى.
لا يخفى على المهتمين بتتبع تاريخ الجامعة ارتباطها الوثيق و الهيكلي بالمؤسسة الاستعمارية إبتداءاً من تسميتها بكلية غردون الجامعية لتخليد ذكرى أحد أساطين العهد الكولونيالي ومن حيث أن الغاية النهائية من إنشائها كانت لتأهيل و تخريج كادر يساعد السلطة الكولونيالية على إدارة دفة المستعمرة و استغلال مواردها المادية و البشرية بأقل تكاليف ممكنة، و بذا تصبح المؤسسة طفلا شرعياً للمشروع الكولونيالي و ربيبته و خادمته المطيعة. فهل تخلت الجامعة عن أداء هذا الدور؟ الإجابة قطعاً لا. فقط أبدلت سيدا بسيد على نهج "لا تحلموا بعالم سعيد…" (سبارتاكوس/ أمل دنقل).
أولاً، عملت الجامعة علي تكريس "الصفوية" (حقيقة أم مزعومة) حيث يُلاحظ أن منسوبي الصرح ما فتئوا يتكبرون ليس على المجتمع العريض و حسب و لكن تكبرهم امتد و تمدد ليشمل حتي أقرانهم في الجامعات و المؤسسات الأكاديمية الأخرى و كأنما الغاية النهائية من الانخراط في المؤسسات التعليمية ليست هي العملية التعليمية كما هو متوقع و إنما الانتماء لمؤسسة ما و حسب.
ثانياً، لقد ورث خريج الصرح و ربيب المستعمر( بوشيجة فلسفة التعليم و أيدولوجيتها السائدة)، ورث ضمن ما ورث البنية النفسية و الذهنية للمستعمر والمتمثلة و المنحصرة بصفة رئيسية في التمحور حول الذات وفي إشباع الرغبات الذاتية و عدم الاكتراث لحاجات المجتمع إلا إذا كانت هذه الأخيرة أيضاً تساهم في تحقيق تلك الرغبات في نهاية المطاف. فأصبح غاية ما يصبو إليه الخريج (ذكراً كان أم أنثي) الوظيفة و المنزل الفخم و العربة الوثيرة و الزواج. و لعل الوظيفة الحلم بالنسبة للخريج هي الوزارة أو الاغتراب و البقاء هناك لفترات طويلة حيث يضخ جل خبراته و معارفه التي اكتسبها من موارد دافع الضرائب/الإتاوات السوداني "البسيط". فالغاية المقدسة للخريج هو تأمين معيشته هو و أسرته في المقامين الأول و الأخير، و لذا إذا ما استطاع تحقيق ذلك عايش كل أنظمة القهر في سلام و وئام!
كان جل خوف المستعمر هو أن تقود العملية التعليمية إلى استنهاض وعي يهدد مصالحه، لذلك عمل كل ما في وسعه حتى تقود فلسفة و منهاج التعليم إلى تمجيد "الانتصارات" الفردية و تشجيع الصفوية ضد المجتمع و ذلك عن طريق تصوير الأخير على أنه مكاناً للشعوذة و التخلف تجب محاربته والابتعاد عنه و ليس نقده و حواره، و هكذا تم شحن ذهنية الخريج بمثل هذه الأفكار و كان أن تبني "الطفل الصفوي" هذه الأفكار تبنيّاً انتهازيا وبامتياز و تباهى بها حتى أصبحت هي _أي تلك الأفكار_ التي تحدد علاقته بالمجتمع! و حتي مؤتمر الخريجين لم يكن الباعث الحقيقي له سوى إرضاء و تحقيق مصالح هذه "الطبقة" بصفة أساسية و لم يهتم المؤتمر بسؤال الشأن العام إلا لاحقاً نتيجة لتطورات في السياسة الإقليمية و بدافع من قوي خارجية‘ حيث كانت لزيارة صدقي باشا السودان و حثه المؤتمر للانخراط في العملية السياسية اليد العليا في دفع الصفوة للانخراط في العمل العام. و لعل هذا يفسر التأثير المصري على الشأن السودان منذ تلك الفترة و إلى يومنا هذا، من ناحية، و من الناحية الأخرى استخدم الطفل الصفوي اللعبة السياسية كأداة ناجعة لتحقيق مآربه الشخصية في المقام الأول، ليصبح هذا المنحى هو المحدد الأساسي لطبيعة الحراك السياسي في السودان.
ثالثاً، التوقف عن المشاركة في العمل الفكري البناء و المساهمة في ترقية الخطاب العام و ذلك بالإحجام عن الكتابة أو الحوار إحجاما شبه كامل حيث يلاحظ بأنه بالنسبة للكثيرين فإن رسالة الماجستير أو الدكتوراه هي آخر ما خطت أقلام هؤلاء. و لعل غياب النشاط النقدي لدى منسوبي الجامعة، بصفة عامة، و لمناهج الجامعة و فلسفتها التعليمية، بصفة خاصة، لهو دليل قوي على "نمط الذات" الذي يعمل الصرح على إنتاجه: فردانية أنانية متقوقعة حول حبها لذاتها. و نلاحظ أن غياب النشاط النقدي داخل المؤسسة يتزامن مع الحراك في الكثير من جامعات بلاد العالم نحو قضايا التحرر من الكولونيالية المستشري في مناهج التعليم و أدواتها المادية و الأيديولوجية والذهنية وهو الاتجاه المعروف بالـ"الديكولونيالية" أو التحرر من الإرث الكولونيالي. أما هنا فالتحرر لا يزال يتمحور حول الإغراب عن الذات و تبني هويات رعناء و إقصائية و شوفينية!
كذلك أدي غياب النقد و الحوار البناء حول فلسفة الجامعة، أدى إلى أن يبدأ و ينتهي حديث هؤلاء عن الجامعة كمجرد ذكريات "شخصية" و مغامرات و متع "فردية" على شاكلة "قابلت فلاناً أو علاناً" و "يا حليل الكافتيريا أو ليمون كلية (س) أو داخلية (ص)، و هكذا". و كذلك مع غياب النقد أصبحت الدراسة الجامعية عبارة عن تراكم كمي للخلوة و منهاجها التلقيني-حفظي وحيث أن العلاقة ما بين الأساتذة و الطلبة أشبه بعلاقات شيوخ الخلاوي مع تلاميذهم و حواريهم، و حيث لا يكف يتحدث هؤلاء عن أساتذتهم و الذين غالبا ما يُوصفوا كآباء أو مربيين، و كأنهم أطفالا في رياض الأطفال و ليسوا طلاباً في مؤسسة مطلوب منها أن تنهض على هموم البحث و الحوار و إنتاج معارف و خبرات بصورة تراكمية ديدنها النقد العالم (بكسر حرف اللام). فلماذا لا يكون هناك حديث عن مساهمة هؤلاء الأساتذة الفكرية و النظرية، إن وُجدت! و لماذا ينحصر همُ الطلبة الأكبر حول الدرجات التي يتحصلون عليها بعد كل امتحان أو النسب التي أهلتهم للدخول للجامعة "المستحيلة" و ليس حول الكم المعرفي المتوقع و المُتحصّل عليه ؟
رابعاً، نسبة لاستثمار المجتمع النفسي و المادي في جامعة الخرطوم بصفة رئيسية أصبحت الجامعة صورة مصغرة للمجتمع التقليدي السائد و قيمه. و لربما يفسر ذلك توصيف الأساتذة بالآباء و المربيين. و كذلك أصبح تأثير العملية التعليمية فوقي و شكلاني لا يتدخل ويؤثر على أنماط و أساليب الحياة الأولية أو طرائق التفكير و رؤية العالم لدى الخريج. و لذا لا تزال قيم الخوف و المحافظية، إلخ، هي التي تسود و تحدد "نواة" هوية الأشخاص من بعد كما كانت من قبل. وانطلاقا من ذلك نجد، مثلاً، أن الدولة لا تفتأ تتدخل و تفرض على الطلاب و الطالبات ماذا يجب عليهم/ن أن يرتدوا و أين يجلسون و مع من يتحدثون وفي أي وقت من اليوم أو المساء‘ إلخ، و تقوم إدارة الجامعة بتنفيذ هذه التدخلات و الخروقات بصورة مباشرة أو بالتواطؤ و لا يحرك كل ذلك أيّاً من هؤلاء الآباء أو المربيين، الأمر الذي يبدو معه و كأنما الأخيرين في حقيقة الأمر يباركون في دواخلهم مثل هذه الانتهاكات و يمجدونها! و لعل اخطر أنواع الانتهاكات تلك التي كانت و ربما لا تزال تتعرض له الطالبات على وجه الخصوص من قبل بعض "الآباء" حيث تسري حكاياتها همساً كالنار في الهشيم و لكن لا يجرؤ أحد على طرحها كقضية عامة تستوجب التحري و المحاسبة.
خامساً، إشارة "جميلة و مستحيلة" و التي تعني ضمن ما تعنيه صعوبة الدخول إلى الجامعة تمثل قبول ضمني طفولي بعدالة شروط القبول في دولة تعاني معظم أطرافها و أقاصيها ما تعاني من التهميش و عدم توفير الأدوات المادية و البشرية لترقية إنسانها، بصفة عامة، ولمؤسساتها التعليمية، إن وُجدت، بصفة خاصة؛ و بالتالي يصبح "التدفيف" بدون نقد عالم يقود إلى وضع طقسي مرضي عام لا أحد يعلم إلى أين أو متى ستنتهى.
سادساً، لكل ما سبق يمكن القول أن جامعة الخرطوم قد ساهمت مساهمة كبيرة في دمار السودان سواء كان ذلك بريادتها في إنتاج أيديولوجية دولة صفوية مهجسة بمركزية الذات: الذات الفردية أو "الجغرا-تاريخية" أو بالانخراط المبكر في إدارة شئون دولة ما بعد الكولونيالية أو في دعم و تثبيت الدكتاتوريات و الأنظمة القمعية، و لعل العقود الثلاثة الأخيرة من حكم الإسلاميين خير دليل على ذلك.
إذن، التدفيف بجمالية الجامعة و الافتخار أو التغني بالانتماء إليها لا تعكس سوى زخم نرجسي لمؤسسة لا تختلف كثيراً في مناهجها عن الخلوة، لكنها خلوة خاصة بصفوة مزعومة. و كما جاء في المثل الدارفوري البليغ "يخيي لا تشكري لي راكوبة في خريف" و ما أطول خريف دولة ما بعد الكولونيالية و ما أقبح منغوليا النرجسي السعيد!
جامعة الخرطوم 1983/84-1988/89 (للمعلومية و درئا لمخاطر أُخر).