تميم البرغوثي
محتويات المقال
تميم البرغوثي
تميم البرغوثي هو شاعر معاصر لأم مصرية وأب فلسطيني، وهو من عائلة ذات باع في الأدب فأمه الروائية رضوى عاشور، ووالده الشاعر والروائي المشهور مريد البرغوثي، وهنا أضع كلمات قصيدته (في القدس).
قصيدة في القدس تميم البرغوثي
- مرَرْنا عَلى دارِ الحبيب فرَدَّنا
- فَقُلْتُ لنفسي رُبما هِيَ نِعْمَةٌ
- تَرَى كُلَّ ما لا تستطيعُ احتِمالَهُ
- وما كلُّ نفسٍ حينَ تَلْقَى حَبِيبَها
- فإن سرَّها قبلَ الفِراقِ لِقاؤُه
- متى تُبْصِرِ القدسَ العتيقةَ مَرَّةً
- في القدسِ، بائعُ خضرةٍ من جورجيا برمٌ بزوجته
- يفكرُ في قضاءِ إجازةٍ أو في طلاءِ البيتْ
- في القدس، توراةٌ وكهلٌ جاءَ من مَنْهاتِنَ العُليا
- يُفَقَّهُ فتيةَ البُولُونِ في أحكامها
- في القدسِ شرطيٌ من الأحباشِ يُغْلِقُ شَارِعاً في السوقِ،
- رشَّاشٌ على مستوطنٍ لم يبلغِ العشرينَ،
- قُبَّعة تُحَيِّي حائطَ المبكَى
- وسياحٌ من الإفرنجِ شُقْرٌ لا يَرَوْنَ القدسَ إطلاقاً
- تَراهُم يأخذونَ لبعضهم صُوَرَاً
- مَعَ امْرَأَةٍ تبيعُ الفِجْلَ في الساحاتِ طُولَ اليَومْ
- في القدسِ دَبَّ الجندُ مُنْتَعِلِينَ فوقَ الغَيمْ
- في القدسِ صَلَّينا على الأَسْفَلْتْ
- في القدسِ مَن في القدسِ إلا أنْتْ
- وَتَلَفَّتَ التاريخُ لي مُتَبَسِّماً
- أَظَنَنْتَ حقاً أنَّ عينَك سوفَ تخطئهم، وتبصرُ غيرَهم
- ها هُم أمامَكَ، مَتْنُ نصٍّ أنتَ حاشيةٌ عليهِ وَهَامشٌ
- أَحَسبتَ أنَّ زيارةً سَتُزيحُ عن وجهِ المدينةِ يابُنَيَّ
- حجابَ واقِعِها السميكَ لكي ترى فيها هَواكْ
- في القدسِ كلًّ فتى سواكْ
- وهي الغزالةُ في المدى، حَكَمَ الزمانُ بِبَيْنِها
- ما زِلتَ تَرْكُضُ خلفها مُذْ وَدَّعَتْكَ بِعَيْنِها
- فًارفق بِنَفسكَ ساعةً إني أراكَ وَهَنْتْ
- في القدسِ من في القدسِ إلا أَنْتْ
- يا كاتبَ التاريخِ مَهْلاً،
- فالمدينةُ دهرُها دهرانِ
- دهر أجنبي مطمئنٌ لا يغيرُ خطوَه وكأنَّه يمشي خلالَ النومْ
- وهناك دهرٌ، كامنٌ متلثمٌ يمشي بلا صوتٍ حِذار القومْ
- والقدس تعرف نفسها،
- إسأل هناك الخلق يدْلُلْكَ الجميعُ
- فكلُّ شيئ في المدينةِ
- ذو لسانٍ، حين تَسأَلُهُ، يُبينْ
- في القدس يزدادُ الهلالُ تقوساً مثلَ الجنينْ
- حَدْباً على أشباهه فوقَ القبابِ
- تَطَوَّرَتْ ما بَيْنَهم عَبْرَ السنينَ عِلاقةُ الأَبِ بالبَنينْ
- في القدس أبنيةٌ حجارتُها اقتباساتٌ من الإنجيلِ والقرآنْ
- في القدس تعريفُ الجمالِ مُثَمَّنُ الأضلاعِ أزرقُ،
- فَوْقَهُ، يا دامَ عِزُّكَ، قُبَّةٌ ذَهَبِيَّةٌ،
- تبدو برأيي، مثل مرآة محدبة ترى وجه السماء مُلَخَّصَاً فيها
- تُدَلِّلُها وَتُدْنِيها
- تُوَزِّعُها كَأَكْياسِ المعُونَةِ في الحِصَارِ لمستَحِقِّيها
- إذا ما أُمَّةٌ من بعدِ خُطْبَةِ جُمْعَةٍ مَدَّتْ بِأَيْدِيها
- وفي القدس السماءُ تَفَرَّقَتْ في الناسِ تحمينا ونحميها
- ونحملُها على أكتافِنا حَمْلاً
- إذا جَارَت على أقمارِها الأزمانْ
- في القدس أعمدةُ الرُّخامِ الداكناتُ
- كأنَّ تعريقَ الرُّخامِ دخانْ
- ونوافذٌ تعلو المساجدَ والكنائس،
- أَمْسَكَتْ بيدِ الصُّباحِ تُرِيهِ كيفَ النقشُ بالألوانِ،
- وَهْوَ يقول: “لا بل هكذا”،
- فَتَقُولُ: “لا بل هكذا”،
- حتى إذا طال الخلافُ تقاسما
- فالصبحُ حُرٌّ خارجَ العَتَبَاتِ لَكِنْ
- إن أرادَ دخولَها
- فَعَلَيهِ أن يَرْضَى بحُكْمِ نوافذِ الرَّحمنْ
- في القدس مدرسةٌ لمملوكٍ أتى مما وراءَ النهرِ،
- باعوهُ بسوقِ نِخَاسَةٍ في إصفهانَ لتاجرٍ من أهلِ بغدادٍ أتى حلباً
- فخافَ أميرُها من زُرْقَةٍ في عَيْنِهِ اليُسْرَى،
- فأعطاهُ لقافلةٍ أتت مصراً، فأصبحَ بعدَ بضعِ سنينَ غَلاَّبَ المغولِ وصاحبَ السلطانْ
- في القدس رائحةٌ تُلَخِّصُ بابلاً والهندَ في دكانِ عطارٍ بخانِ الزيتْ
- واللهِ رائحةٌ لها لغةٌ سَتَفْهَمُها إذا أصْغَيتْ
- وتقولُ لي إذ يطلقونَ قنابل الغاز المسيِّلِ للدموعِ عَلَيَّ: “لا تحفل بهم”
- وتفوحُ من بعدِ انحسارِ الغازِ، وَهْيَ تقولُ لي: “أرأيتْ!”
- في القدس يرتاحُ التناقضُ، والعجائبُ ليسَ ينكرُها العِبادُ،
- كأنها قِطَعُ القِمَاشِ يُقَلِّبُونَ قَدِيمها وَجَدِيدَها،
- والمعجزاتُ هناكَ تُلْمَسُ باليَدَيْنْ
- في القدس لو صافحتَ شيخاً أو لمستَ بنايةً
- لَوَجَدْتَ منقوشاً على كَفَّيكَ نَصَّ قصيدَةٍ
- يابْنَ الكرامِ أو اثْنَتَيْنْ
- في القدس، رغمَ تتابعِ النَّكَباتِ، ريحُ براءةٍ في الجوِّ، ريحُ طُفُولَةٍ،
- فَتَرى الحمامَ يَطِيرُ يُعلِنُ دَوْلَةً في الريحِ بَيْنَ رَصَاصَتَيْنْ
- في القدس تنتظمُ القبورُ، كأنهنَّ سطورُ تاريخِ المدينةِ والكتابُ ترابُها
- الكل مرُّوا من هُنا
- فالقدسُ تقبلُ من أتاها كافراً أو مؤمنا
- أُمرر بها واقرأ شواهدَها بكلِّ لغاتِ أهلِ الأرضِ
- فيها الزنجُ والإفرنجُ والقِفْجَاقُ والصِّقْلابُ والبُشْنَاقُ
- والتاتارُ والأتراكُ، أهلُ الله والهلاك، والفقراءُ والملاك، والفجارُ والنساكُ،
- فيها كلُّ من وطئَ الثَّرى
- كانوا الهوامشَ في الكتابِ فأصبحوا نَصَّ المدينةِ قبلنا
- أتراها ضاقت علينا وحدنا
- يا كاتب التاريخِ ماذا جَدَّ فاستثنيتنا
- يا شيخُ فلتُعِدِ الكتابةَ والقراءةَ مرةً أخرى، أراك لَحَنْتْ
- العين تُغْمِضُ، ثمَّ تنظُرُ، سائقُ السيارةِ الصفراءِ، مالَ بنا شَمالاً نائياً عن بابها
- والقدس صارت خلفنا
- والعينُ تبصرُها بمرآةِ اليمينِ،
- تَغَيَّرَتْ ألوانُها في الشمسِ، مِنْ قبلِ الغيابْ
- إذ فاجَأَتْني بسمةٌ لم أدْرِ كيفَ تَسَلَّلَتْ للوَجْهِ
- قالت لي وقد أَمْعَنْتُ ما أَمْعنْتْ
- يا أيها الباكي وراءَ السورِ، أحمقُ أَنْتْ؟
- أَجُنِنْتْ؟
- لا تبكِ عينُكَ أيها المنسيُّ من متنِ الكتابْ
- لا تبكِ عينُكَ أيها العَرَبِيُّ واعلمْ أنَّهُ
- في القدسِ من في القدسِ لكنْ
- لا أَرَى في القدسِ إلا أَنْتْ
قفي ساعةً يفديكِ قَوْلي
- قفي ساعةً يفديكِ قَوْلي وقائِلُهْ
ولا تَخْذِلي مَنْ باتَ والدهرُ خاذِلُهْ - الا وانجديني انني قل منجدي
بدمع كريم ما يخيب زائله - اذا ما عصاني كل شي اطاعني
ولم يجري في مجرى الزمان يباخله - بإحدى الرزايا أو الرزايا جميعها
كذلك يدعو غائب الحزن ماثله - إذا عجز الإنسان حتى عن البكى
فقد بات محسودا على الموت نائله - وإنك بين أثنين فاختر ولا تكن
كمن أوقعته في الهلاك حبائله - فمن أمل يفنى ليسلم ربه
ومن أمل يبقى ليهلك آمله - فكن قاتل الآمال أو كن قتيلها
تسوى الردى يا صاحبي وبدائله - أَنَا عَالِمٌ بالحُزْنِ مُنْذُ طُفُولَتي
رفيقي فما أُخْطِيهِ حينَ أُقَابِلُهْ - وإنَّ لَهُ كَفَّاً إذا ما أَرَاحَها
عَلَى جَبَلٍ ما قَامَ بالكَفِّ كَاهِلُهْ - يُقَلِّبُني رأساً على عَقِبٍ بها
كما أَمْسَكَتْ سَاقَ الوَلِيدِ قَوَابِلُهْ - وَيَحْمِلُني كالصَّقْرِ يَحْمِلُ صَيْدَهُ
وَيَعْلُو به فَوْقَ السَّحابِ يُطَاوِلُهْ - فإنْ فَرَّ مِنْ مِخْلابِهِ طاحَ هَالِكاً
وإن ظَلَّ في مِخْلابِهِ فَهْوَ آكِلُهْ - عَزَائي مِنَ الظُّلاَّمِ إنْ مِتُّ قَبْلَهُمْ
عُمُومُ المنايا مَا لها مَنْ تُجَامِلُهْ - إذا أَقْصَدَ الموتُ القَتِيلَ فإنَّهُ
كَذَلِكَ مَا يَنْجُو مِنَ الموْتِ قاتلُِهْ - فَنَحْنُ ذُنُوبُ الموتِ وَهْيَ كَثِيرَةٌ
وَهُمْ حَسَنَاتُ الموْتِ حِينَ تُسَائِلُهْ - يَقُومُ بها يَوْمَ الحِسابِ مُدَافِعاً
يَرُدُّ بها ذَمَّامَهُ وَيُجَادِلُهْ - وَلكنَّ قَتْلَىً في بلادي كريمةً
سَتُبْقِيهِ مَفْقُودَ الجَوابِ يحاوِلُهْ - ترىالطفلَ مِنْ تحت الجدارِ منادياً
أبي لا تَخَفْ والموتُ يَهْطُلُ وابِلُهْ - وَوَالِدُهُ رُعْبَاًَ يُشِيرُ بَكَفِّهِ
وَتَعْجَزُ عَنْ رَدِّ الرَّصَاصِ أَنَامِلُهْ - أَرَى اْبْنَ جَمَالٍ لم يُفِدْهُ جَمَالُهُ
وَمْنْذُ مَتَي تَحْمِي القَتِيلَ شَمَائِلُهْ - عَلَى نَشْرَةِ الأخْبارِ في كلِّ لَيْلَةٍ
نَرَى مَوْتَنَا تَعْلُو وَتَهْوِي مَعَاوِلُهْ - أَرَى الموْتَ لا يَرْضَى سِوانا فَرِيْسَة ً
كَأَنَّا لَعَمْرِي أَهْلُهُ وَقَبَائِلُهْ - لَنَا يَنْسجُ الأَكْفَانَ في كُلِّ لَيْلَةٍ
لِخَمْسِينَ عَامَاً مَا تَكِلُّ مَغَازِلُهْ - وَقَتْلَى عَلَى شَطِّ العِرَاقِ كَأَنَّهُمْ
نُقُوشُ بِسَاطٍِ دَقَّقَ الرَّسْمَ غَازِلُهْ - يُصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ يُوطَأُ بَعْدَها
وَيَحْرِفُ عُنْهُ عَيْنَهُ مُتَنَاوِلُهْ - إِذَا ما أَضَعْنَا شَامَها وَعِراقَها
فَتِلْكَ مِنَ البَيْتِ الحَرَامِ مَدَاخِلُهْ - أَرَى الدَّهْرَ لا يَرْضَى بِنَا حُلَفَاءَه
وَلَسْنَا مُطِيقِيهِ عَدُوَّاً نُصَاوِلُهْ - فَهَلْ ثَمَّ مِنْ جِيلٍ سَيُقْبِلُ أَوْ مَضَى
يُبَادِلُنَا أَعْمَارَنا وَنُبَادِلُهْ