بين الشوفونية وتزوير التاريخ
ومن عجائب وغرائب (الشوفونية)Chauvinism التي يمكن أن نُلخّص معناها في عبارة: (الوطنية المفرطة والمتعصّبة)، محاولة اختزال تاريخ العالم أجمع في وطنك سواء بالحق أو بالباطل، بمعنى أن تنسب كل شيء جميل وكل حضارة إنسانية وكل شخص عظيم إلى موطنك، أما الأوطان الأخرى فلتذهب إلى الجحيم.
ذلك ما ألحظه في بعض الكتابات التي أخذت تنتشر بين كثير من أبناء السودان، وما أُبرّئ نفسي أن النفس لأمارة بالسوء، فلطالما نافحت عن الشخصية السودانية، وكتبت عن تفرّدها بين شعوب الدنيا خاصة عندما تحرّش بها أو أساء إليها بعض الشانئين في الداخل والخارج، فهل يقع ذلك في إطار تلك الكلمة أم إنه قول منصف دافع عن الحقيقة ولم يتجاوزها إلى التعصّب الأعمى؟
لا أظن أن ما قلته يقع في خانة الشوفونية، ذلك أن الانتماء للوطن والدفاع عنه بل والتضحية في سبيله بالروح والمال والولد أمر مطلوب، لكن التعصب الأعمى بما يسلب حقوق الآخرين مثلاً أو غير ذلك من تجاوزات فإنه يقع ضمن ما تعنيه الكلمة.
أكتب هذا بين يدي ادعاء غريب ورد على لسان إحدى البرلمانيات قالت فيه إن منطقة جبل مرة بغرب دارفور هي موطئ سيدنا موسى كليم الله، وطالبت تلك المرأة باتخاذ الاحتياطات الأمنية اللازمة لحمايتها.
لستُ أدري على أي حجج أو أسانيد أو وثائق أو اكتشافات أثرية بنت النائبة المحترمة ذلك الزعم العجيب، وأي موطئ لسيدنا موسى تعنيه؟ أهو جبل الطور الذي حدّثه فيه ربنا سبحانه أم ذلك الذي رُفع من فوق رؤوس بني إسرائيل (كأنه ظلة) عقاباً لهم وتخويفاً؟!
معلوم أن موسى وُلد وعاش في مصر، وهاجر منها مرتين إحداها إلى ارض شعيب هرباً من فرعون بعد قتله للقبطي، حيث تزوّج ابنة شعيب، ثم عاد إلى مصر والثانية هي التي اصطحب فيها بني إسرائيل وعبر بهم البحر الأحمر قاصداً الأرض المقدسة (القدس)، وتوفي في صحراء سيناء خلال فترة التيه التي ضربت بني إسرائيل جراء نكوصهم عن الجهاد، فما الذي جعل جبل مرة البعيد عن مصر موطناً أو موطئ قدم لسيدنا موسى، وهل تعني أن موسى فرّ إلى دارفور في رحلته الأولى وتزوّج بنت شعيب هناك، وفي طريق عودته إلى مصر كلّمه ربه في جبل مرة؟!
على كل حال، كل ذلك مجرد خزعبلات لا يُمكن ولا يجوز مجرد التفكير فيها، ذلك أن موسى كان قلبه معلقاً بأرض أجداده في فلسطين شرقاً وليس غرباً باتجاه ليبيا أو دارفور أو شمالاً نحو أوروبا.
ما كتبه بعض من تناولوا هجرة سيدنا موسى الأولى تحدثوا عن توجهه جنوباً إلى أرض النوبة التي كانت حضارة باذخة خلال فترة فرعون موسى (رمسيس الثاني)، ولكني أشك كثيراً في ذلك، فقد كانت هجرة موسى الأولى في ظني تمهيدية لهجرته الثانية بالرغم من اختلاف طريق الهجرة الذي كان في المرة الثانية عبر البحر الأحمر عندما فُلق له ولقومه بأمر ربنا سبحانه، فقد تعرّف موسى خلال السنوات التي قضاها مع شعيب على المنطقة ربما لكي يزورها مجدّداً في رحلته الأخيرة.
الشيء الوحيد الذي يربط بين قصة سيدنا موسى وبين منطقة النوبة أو قل حضارة كرمة أو دنقلا هو في نظري ما أورده (ابن كثير) عن أن فرعون مصر استعان بسحرة من منطقة دنقلا، ومعلوم أن المؤرخ وعالم الآثار السويسري شارلس بانيه ذكر أن حضارة كرمة تُعتبر أول حضارة إنسانية، وأظن أن دنقلا تنتمي إلى تلك الحضارة وقد ذكر عالمنا النحرير د. عبد الحي يوسف في تفسير آية سورة الشعراء :(قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ)، أن فرعون أحضر السحرة من (دنقلا) والغريب أن الناس يتحدثون حتى الآن عن أن (ناوا) القريبة من دنقلا تشتهر بالسحر، وذلك يُعضّد ما أورده علماء الآثار عن عظمة الحضارة النوبية في السودان خاصة والتي كانت مركزاً حضارياً اضطر فرعون إلى الاستعانة به في تزويده ببعض ما لا يوجد في بلاده.
أنتهز هذا المقال المُنبّه لخطل المغالاة (الشوفونية) التي تختلق أمجاداً ووقائع تاريخية مزعومة وموهومة وغير حقيقية لأشير إلى أن تاريخ السودان لم يُكتب إلا أقله ولا أعني حقبة الظلمة الـ(Black out) أيام مملكة سنار، إنما بعدها وخاصة فترة الثورة المهدية وحقيقة مزاعم (مهدية) المحرّر الكبير محمد أحمد المهدي وخلافه مع شيخه محمد شريف نور الدائم وكيفية وفاته، وفترة الخليفة عبد الله التعايشي، وتعاون الزعماء السودانيين مع الحكم الاستعماري منذ غزوه للسودان وحتى التحرير، ونيل البلاد استقلالها، وقد حام د. حسن عابدين حول بعض هذه القضايا، ولكنه لم يلمس إلا أقل القليل سيما وأن هناك إرهاباً فكرياً لا يزال يُمارَس على من يحاول البحث في أضابير المسكوت عنه من التاريخ.