الخبير الإقتصادي الدولي د. بشير عمر يقدم وصفات علاجية و حلول للأزمة الإقتصادية السونامية 4_2
أجرت الحوار : عبير المجمر (سويكت)
وزير المالية الأسبق و الخبير الإقتصادى الدولي د. بشير عمر يرد على أخطر القضايا الإقتصادية.
الجزء الثاني
نسبة للأزمة الإقتصادية السونامية و الغير المسبوقه التي هددت السودان و السودانيين، و بما أن التدهور الإقتصادي أحد أسباب الأزمة الأخلاقية والإجتماعية التي تهدد المجتمع في المقام الأول كان لابد أن يلعب الإعلام دوره في المساهمة في إيجاد حلول تخاطب جذور الأزمة و الضائقة المعيشية للشعب السوداني من شظف العيش و مصاعب و متاعب لا عدد لها، و في مثل هذه المواقف الوطنية الحرجه، يكون الوطن في أمس الحاجة لنجدة أبنائه من عمالقة خبراء الإقتصاد السوداني و بالفعل الدكتور بشير عمر الوزير الأسبق لمالية السودان و الطاقة التعدين في حقبة الديمقراطية الثالثةو الخبير الاقتصادي وطنيته و إنسانيته جعلته لا يتردد في تزويد الوطن بذخيرته العلمية و المهنية لتنوير المواطن و المساهمة بوصفات و حلول ناجعة تعمل على بتر الورم الخبيث و معالجة جسم الإقتصاد السوداني حتى يتمكن من إسترداد صحته و عافيته.
و الآن إلى مضابط الحوار :
سبق لكم أن عملتم فى البنك الأهلى التجارى بجدة ، ثم انتقلتم للعمل بالبنك الإسلامى للتنمية بجدة أيضاً . ماهو الفرق بين المؤسستين وماهو الدور الذى يمكن لهما أن يلعباه فى حل الضائقة الإقتصادية فى السودان ؟
البنك الأهلى التجارى هو أعرق البنوك السعودية حيث بدأ نشاطه فى ديسمبر من العام 1953 م ، وهو أكبر مؤسسة مالية بالمملكة وأكبر البنوك فى العالم العربى برأسمال يبلغ 30 مليار ريال سعودى (8 مليار دولار أمريكى ) ، وقيمة أصول تبلغ 444 مليار ريال سعودى (118 مليار دولار أمريكى) . وللبنك الأهلى التجارى 400 فرع حول المملكة و 5,9 مليون عميل (2017 م) ، وقد بلغ صافى أرباحه فى العام 2017 م 9,8 مليار ريال سعودى (3 مليار دولار أمريكى) ، ويملك البنك 3,488 جهازاً من أجهزة الصراف الآلى على مستوى المملكة ويعمل فيه 7,973 موظفاً (2017 م) ، وكدليل على إعتماد تقنية المعلومات والتكنولوجيا الحديثة كأساس لعمله ، فقد تم تنفيذ 96% من إجمالى عمليات البنك عبر القنوات الإلكترونية الذكية فى العام 2017 م .
ولكن هذه المؤسسة المالية العملاقة هى مؤسسة خاصة ، وليس لها صلة مباشرة بمسألة حل الضائقة الإقتصادية فى السودان . غير أنها فى الواقع تستطيع المساعدة بطريقة غير مباشرة ، فالبنك الأهلى هو الأكثر علاقة ببنوك السودان ، ومن ثم يستطيع المساعدة فى مجال فتح الإعتمادات لسلع الصادر والوارد خاصة السلع الإستهلاكية الضرورية ومدخلات الإنتاج من المملكة ، كما إنه يستطيع تيسير عمليات تحصيل وتحويل حصائل الصادر السودانى من اللحوم (السواكنى) على وجه التحديد ، ولكن ينبغى التنبيه هنا إلى أن قرار المقاطعة الأمريكى للسودان ، رغم أنه قد رُفع ، إلا أنه مايزال يلقى بظلاله على كل العمليات المصرفية التى تخص السودان ، ولا يغيب على فطنة القارئ أن المسألة فى جذورها هى مسألة سياسية تتعلق بعدم القبول للنظام القائم فى السودان من قبل الأسرة الدولية .
أما فيما يتعلق بدور البنك الإسلامى للتنمية ، فتلك مسألة شرحها سيطول ، ولكنها من الأهمية بمكان ، ولذلك دعونا نتوقف عندها بشئ من التفصيل لنرى كيف أن الإدارة الإقتصادية عندنا فى السودان قد أدمنت إهدار الفرص التى يمكن أن تساهم مساهمة فعّالة فى حل معضلات الإقتصاد السودانى وإزالة العقبات من طريقه – ونقصد هنا العقبات الإقتصادية – لتمهد له الطريق للإنطلاق نحو وجهتى النمو الإقتصادى والتنمية الإقتصادية والإجتماعية . بل أن الإدارة الإقتصادية استمرت فى التمادى فى إرتكاب الأخطاء وتجاهل الحلول الواضحة وضوح الشمس فى رائعة النهار مما قاد إلى الحال المأساوى الذى تعيشه البلاد الآن .
ولكى نجيب على السؤال إجابة تحيط بالموضوع إحاطة كاملة ، وتنقل القارئ معنا إلى نفس حيز المعرفة والتفكير ، دعونا نفهم أولاً ماهى هذه المؤسسة المسماة البنك الإسلامى للتنمية ، وكيف تعمل وكم كانت استفادتنا منها فى الماضى وماهو وضع علاقتنا بها فى الحاضر وماهى فرص استفادتنا منها فى المستقبل .
البنك الإسلامى للتنمية هو بنك تنموى متعدد الأطراف يعمل على تحسين حياة الناس فى دوله الأعضاء عن طريق تمويل مشروعات التنمية فى مجال الإنتاج والخدمات الضرورية وفى مجال التجارة وكافة أنواع البنية التحتية التى تمكن الشعوب من تفجير طاقاتها وامكانياتها لتحقيق حياة أفضل . كما يعنى البنك أيضاً بالمجتمعات الاسلامية فى الدول غير الأعضاء فى البنك .
وقد أسس البنك فى العام 1973 م بمدينة جدة بواسطة وزراء مالية دول منظمة المؤتمر الإسلامى آنذاك ، كأول بنك يعتمد نظام الصيرفة الإسلامية وبدأ نشاطه فى العام 1975م . وقد كان عدد أعضائه فى البداية 22 دولة تطور الآن ليصل إلى 57 دولة من دول العالم الإسلامى ، وتمتد هذه العضوية فوق أربعة قارات من القارات الخمسة . ويشار إلى أن السودان هو من الأعضاء المؤسسين وكان الدولة الأولى التى قامت بتسديد حصتها فى رأسمال البنك . يبلغ رأسمال البنك المصرح به 150 مليار دولار والمكتتب فيه 70 مليار دولار وتتجاوز أصوله التشغيلية 16 مليار دولار . وتطور البنك نفسه من البنك الإسلامى للتنمية ليصير مجموعة البنك الإسلامى للتنمية وهى تشمل :
_البنك الإسلامى للتنمية .
_المعهد الإسلامى للبحوث والتدريب .
_المؤسسة الإسلامية لتأمين الإستثمار وائتمان الصادرات .
_المؤسسة الإسلامية لتنمية القطاع الخاص .
_المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة .
الهيئة العالمية للوقف .
فالبنك الإسلامى للتنمية ، هذه المؤسسة المالية الإسلامية العالمية الرائدة ، هى المؤسسة الوحيدة التى ظلت تقف مع السودان وقوف العضد والمساندة فى كل ظروف السودان التى مر بها ، ولم تدر وجهها له ولم تخذله أبداً وهو يتقدم لها رسمياً بطلب من طلبات التمويل . ويرجع الفضل فى ذلك ، بعد الله سبحانه وتعالى ، لرئيس البنك السابق الدكتور احمد محمد على الذى كان يكن للسودان وأهله حباً وتقديراً كبيرين ، وكذلك لزمرة الزملاء السودانيين القياديين فى إدارة البنك حيث كانوا يتنادون ويعملون بكل طاقاتهم وبصيرتهم لإنجاح مشاريع السودان ودعمها للحصول على التمويل اللازم بغض النظر عن إنتماءاتهم السياسية ، وكانوا يفرقون تماماً بين الوطن وأولئك الذين يحكمون الوطن .
ويقدم البنك ، شأنه شأن كثير من مؤسسات التمويل التنموى ، التمويل للدول الأعضاء فى كافة المجالات ولكن بتحديد أكثر فى المجالات التالية : –
تمويل مشروعات الإنتاج الزراعى والصناعى تلبية لمتطلبات تحقيق الإكتفاء الذاتى والأمن الغذائى ، وتشجيع وتنمية الصادرات التى هى أحد أهم الأذرع الإقتصادية للحصول على العملة الصعبة والنقد الأجنبى .
تمويل مشروعات البنية التحتية الإجتماعية والخدمات الضرورية كالصحة والتعليم ومياه الشرب النظيفة والإسكان والصرف الصحى وإصحاح البيئة ونحوها .
تمويل مشروعات البنية التحتية الإقتصادية كالطاقة والطرق والموانئ والمطارات ومياه الرى والإتصالات والتخزين ونحوها .
تمويل مشروعات محاربة الفقر ومشروعات التوازن الإجتماعى والجهوى والإقليمى تحقيقاً لمتطلبات العدالة والإستقرار السياسى .
تمويل مشروعات النهوض بالكادر البشرى ورفع قدراته الفنية والعملية والإدارية ، فى مجالات الإنتاج والتسويق ومجالات تقديم الخدمات ومجالات إدارة التنمية نفسها .
تمويل مشروعات القطاع الخاص بإعتبار أنه الشريك الإستراتيجى لتحقيق النمو الإقتصادى والتنمية .
تمويل التجارة ، خاصة إستيراد السلع الضرورية وسلع الغذاء كالقمح والدقيق والسكر ، والغاز ومدخلات الإنتاج الزراعى والصناعى وتمويل عملية الصادرات .
ولما كان السودان يقع ضمن قائمة الدول ذات الدخل المحدود وفق تصنيفات الأمم المتحدة والبنك الدولى ، فإن ذلك يؤهله للإقتراض بشروط ميسرة من مؤسسات التمويل الإقليمية والدولية . وفى حالة البنك الإسلامى للتنمية تحديداً ، فإن شروط الإقتراض التى يستطيع بموجبها أن يقترض السودان لتمويل مشروعاته التنموية هى كالآتى :-
حجم القرض : وفق ما تحدده دراسة الجدوى الإقتصادية والفنية ، ووفق ما يطلبه وزير المالية الإتحادى إنابة عن الحكومة .
هامش الربح على القرض يتراوح بين 0,75 % (أقل من 1%) فى حالة مشروعات البنية التحتية الإجتماعية كالصحة والتعليم ومياه الشرب والصرف الصحى وإصحاح البيئة ، و2% فى حالة المشروعات الأخرى .
فترة السداد : ثلاثون عاماً تشمل فترة سماح قد تصل إلى عشرة سنوات .
فكل ما على الدولة عمله هو الوصول لاتفاق مع البنك حول خطة ثلاثية محددة الأولويات والأسبقيات فى القطاعات المختلفة ، وإجراء دراسات الجدوى الإقتصادية والفنية للمشروعات المختلفة من قبل شركات أو بيوت خبرة تملك الكفاءة والسمعة الطيبة ، وخطاب رسمى موجه للبنك من وزير المالية الإتحادى إنابة عن الحكومة يحوى طلب التمويل ويقدم الاستعداد لتقديم خطاب ضمان حكومى (سيادى) لضمان سداد القرض . ويأتى التمويل بعدها منساباً بلا كثير عناء .
وكان السودان يستفيد أيما استفادة من هذه الفرصة التى يوفرها له البنك الإسلامى للتنمية فى وقت أحجمت فيه كل الصناديق العربية وبقية مؤسسات التمويل الدولية والإقليمية عن مد يد العون ، ولكن فى خلال الخمسة سنوات الأخيرة ، تدهورت علاقة السودان بالبنك بشكل ملحوظ أدهش كل المراقبين . والسبب فى هذا التدهور هو سلوك الجانب السودانى غير المبرر وغير المفهوم فى ذات الوقت . فلقد صار السودان يتقاعس فى سداد متأخرات البنك عليه .
وبالرغم من النداءات المتكررة من رئيس البنك ومن مجلس الإدارة للسودان بأنّ يسارع ويسدد ما عليه من متأخرات حتى لا تتأثر فرصه فى الإقتراض من البنك ، إلا أن كل تلك النداءات لم تجد أذناً صاغية ولا اهتماماً يذكر فذهبت كلها أدراج الرياح .
الغريب فى الأمر أن هذه المتأخرات بدأت بما يفوق المليون دولار قليلاً ، ثم ارتفعت إلى 2 مليون دولار وبقيت كذلك لفترة طويلة . ولما كان البنك قد اتخذ قراراً ليحمى به نفسه من خطر تراكم ديون الدول الأعضاء على رأسماله وعلى سقف التمويل الكلى المتاح كل عام ، وكذلك على تصنيفه الإئتمانى الذى يحدد قدرته على الإقتراض من أسواق المال العالمية ، فلقد دخل السودان بتقاعسه ذاك تحت الدول المحظورة طيلة السنوات الأخيرة . ولأن البنك لا يفرض سعر فائدة على المتأخرات لأن ذلك يخالف مقتضيات الشريعة الإسلامية ، وحتى لا تستمرأ الدول الأعضاء هذا الوضع ، قام البنك بتحديد سقف معين من المتأخرات ما إن تصله الدولة ، حتى يقوم البنك بوقف التصديق على المشروعات الجديدة ، وبوقف السحب من القروض على المشروعات القائمة وذلك كنوع من تنبيه الدول للحفاظ على سجلها فى دفع المتأخرات . ومساعدة للدول على عدم الغفلة عن التواريخ التى يحين فيها السداد ، يقوم البنك ، ومنذ أول يوم يتم فيه التوقيع على إتفاقية التمويل بين البنك والدولة العضو ، بتزويد الدولة (وزارة المالية والبنك المركزى) بجدول الإستحقاقات وفق مواقيت معلومة لكامل فترة السداد . ولا تكون الأقساط المستحقة الدفع عادة كبيرة فى كل حالة . ولكن سوء التخطيط والإهمال واللامبالاة فى الحالة السودانية ، جعلتها تتراكم حتى بلغ إجمالى متأخرات السودان فى 11/11/2018 م مبلغ 55,9 مليون دينار إسلامى وهو ما يساوى 77 مليون دولار أمريكى . وأن طلبات السحب الموجودة طرف البنك بالنسبة للمشاريع المصدقة والتى لا يمكن تلبيتها كنتيجة للحظر بلغ عددها 38 طلباً بمبلغ 20 مليون دولار . زد إلى ذلك أن السودان توقف تماماً خلال العشرة سنوات الأخيرة عن تسديد متأخراته فى رأسمال البنك البالغ قدرها 12 مليون دينار إسلامى ، أى مايوازى 17 مليون دولار أمريكى . كما أن أحد أعضاء مجموعة البنك الإسلامى للتنمية ، وهى المؤسسة الإسلامية لتنمية القطاع الخاص قد أتاحت للسودان وديعتين بناءً على طلب منه ، الأولى بمبلغ 11,630 مليون دولار استحقت السداد فى عام 2013 م ، والثانية بمبلغ 12,158 مليون دولار استحقت السداد فى يناير 2016 م ، وفشل السودان فشلاً ذريعاً فى الوفاء بالتزاماته إزاء الوديعتين . الجدير بالذكر أن أرباح الوديعتين قد بلغت زهاء الثلاثة مليون دولار .
ماذا كانت النتيجة الحتمية لكل هذا السرد التفصيلى الذى ورد أعلاه ؟ كما ذكرنا آنفاً أدخل السودان نفسه فى قائمة الدول المحظورة من تمويلات البنك إلى أن يقوم بسداد كامل تلك المتأخرات . وكنتيجة لذلك توقف تصديق مجلس إدارة البنك للمشاريع التنموية الجديدة . كما توقف السحب على المشاريع المصدقة وتحت التنفيذ ، وخلق ذلك مشاكل لا حصر لها للمقاولين الذين يقومون بتنفيذ هذه المشروعات حتى أن بعضهم قد أدخل السجون نتيجة شكاوى العمال والمهندسين . وأثر كل ذلك سلباً على سمعة السودان لدى المؤسسات التمويلية الأخرى ولدى الأسرة الدولية كبلدٍ غير قادرٍ على الوفاء بالتزاماته المالية .
إذن ، يتضح جلياً من السرد أعلاه ، أنه حدث تقصير كبير وقصر نظر لا يغتفر من الإدارة الإقتصادية للبلاد إزاء هذه المسألة . فلا يُعقل مثلاً ، ألا يكون فى خزينة بنك السودان المركزى مبلغ 2 مليون دولار ، علماً بأن سداد هذا المبلغ سيؤدى ، وربما فى غضون إثنان وسبعون ساعة ، إلى الإفراج عن ما يناهز 50 مليون دولار عبارة عن طلبات السحب على المشاريع المجمدة .
المسألة إذن لا تحتاج إلى “درس عصر” كما يقول المثل السودانى الشائع ، وهو درسٌ يُعطى للطالب المتخلف أكاديمياً عن زملائه حتى يستطيع اللحاق بهم ومواكبتهم ، ولا تحتاج كذلك إلى دروس تقوية ، وإنما هى ، للأسف الشديد ، الغفلة والإهمال واللامبالاة وعدم المسؤولية وغياب الرقابة والتمادى فى ارتكاب الأخطاء الفادحة التى كان نتيجتها الإضرار بمصالح البلاد والعباد . نستطيع أن نقول – مجازاً – أن الإدارة الاقتصادية بسلوكها هذا ، قد قتلت الدجاجة التى تبيض الذهب .
أما عن ماهو المخرج ، فليس أقل من سداد كامل مبلغ المتأخرات لإعادة شريان الحياة إلى المشاريع المجمدة – خاصة الإنتاجية منها ، والجد والإجتهاد فى وضع خطة مشاريع حسنة الدراسة وحسنة الإختيار لجولة التمويل القادمة ، مراعين أولويات فك الضائقة المعاشية والإقتصادية .
حسنا دكتور يقال إن السودان يملك موارد طبيعية هائلة وموارد بشرية قوية ، فلماذا فشل فى استغلالهما الإستغلال الذى يفضى للإزدهار الإقتصادى ؟
إن السبب الرئيس لفشل السودان فى تحقيق الإزدهار الإقتصادى هو عدم الإستقرار السياسى . فلقد مُنى السودان منذ أن نال إستقلاله فى العام 1956 م وأصبح دولة ذات سيادة ، بسلسلة من الإنقلابات العسكرية التى أفضت إلى نظم شمولية دكتاتورية عطلت حركتى الإقتصاد والمجتمع وأدت إلى إهدار موارد البلاد بشقيها المادى والبشرى . فباستثناء بعض المجهودات التنموية الجيدة فى فترة حكم الفريق ابراهيم عبود ، فإن جل موارد البلد فى فترات الحكومات الشمولية يصير حكراً على الحكومة وأجهزتها الأمنية وأحزابها الحاكمة دون سائر أهل السودان . الإزدهار الإقتصادى أو النمو الإقتصادى يعنى زيادة وارتفاع الناتج الوطنى الذى يقود إلى تحسين مستوى معيشة الفرد مما يقود إلى تحسين الوضع الإجتماعى للأفراد والأسر والمجتمع بشكل عام . ومن مظاهره إزدهار الصناعة وانتعاش التجارة وارتفاع القوة الشرائية نتيجة لإرتفاع دخول الأفراد ، وهذا يؤدى بدوره إلى زيادة الطلب المحلى على السلع والبضائع ويعود ذلك فى شكل حركة دائبة وانتعاش للنشاط الإقتصادى الذى يقود إلى مزيد من الإزدهار . ومن مظاهره حدوث طفرة فى التعليم وفى مجال خدمات الرعاية الصحية والإسكان وما يتبعه وفى البنية التحتية الإقتصادية والإجتماعية بشكل كبير . ويقود كل ذلك إلى الإستقرار الإجتماعى نتيجة لإرتفاع مستوى معيشة الفرد ، فتستقر حياته وتقل المشاكل الإجتماعية وتزيد فرص العمل للشباب وتنحسر البطالة ويقل الإنحراف والإنحلال وتصان القيم وتعم السعادة والرفاه كل أفراد المجتمع . هذه الصورة الزاهية تحدث لو أن القائمين على أمر حكم البلاد يؤمنون فى دواخلهم إيماناً قاطعاً أن هذا هو الشيئ الحسن الذى ينبغى أن يحصل لشعوبهم . ولكن الواضح أنه فى عهود الحكم الشمولى تتجه الحكومات لتكديس الثروة والمال لمصلحتهم الخاصة ومصلحة ذويهم ومحاسيبهم ، وترمى بمصلحة الوطن والمواطن بعيداً خارج دائرة الإهتمام . هذا بالرغم من الصورة الزاهية التى يصورها دائماً إعلام هذه الحكومات عن الحال فى بلادهم ، ولكنّا لا نعتّد كثيراً بما تقوله الحكومات وإعلامها ، بل بما تفعله ونتائج تلك الأفعال على أرض الواقع . فالإزدهار الإقتصادى لا يحدث مصادفة ، إنما هو أمر يخطط له بطريقة علمية متأنية ، وبلا ضوضاء ولا هرجلة ، وبإسناد المهام لأهل العلم والمعرفة والخبرة . فالحكومة تضع التوجهات العامة والأسبقيات آخذة فى الإعتبار حقاً وصدقاً رأى المواطنين وميولهم وتطلعاتهم ، ثم تستنفر أفضل علمائها وخبرائها ومختصيها لوضع الإستراتيجيات والسياسات والخطط والبرامج ، على أن تكون تلك الخطط والبرامج مشفوعة بآليات وإجراءات تنفيذها ومصحوبة بالجداول الزمنية للتنفيذ وباجراءات الرقابة والتقييم وقياس أثر النتائج بعد انتهاء التنفيذ .ثم تقوم الحكومة باتباع تلك الخطط حرفياً ولا تحيد عتها إلا لدوافع الضرورة القصوى . ويتوجب على الحكومة حشد الموارد المادية والبشرية المطلوبة للتنفيذ الأمثل لتلك الخطط ولتلك البرامج . ولكن يبدو أن الصورة عندنا مقلوبة . فالحكومة تضع الإستراتيجيات والخطط والبرامج ، ثم تطلب من العلماء والخبراء والمختصين أن يبدأوا فى التنفيذ ، وأن يتبعوا حرفياً ما تأمرهم به الحكومة . وتُهزم المسألة كلها فى أول الطريق لأن الحكومة لا تكون جادة فى توفير الموارد اللازمة للتنفيذ . فيجد الجميع نفسه كمن أُلقى فى اليم مكتوف اليدين وقيل له إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء .
أما المعضلة الحقيقية التى عطلت أية بارقة أمل لعموم أهل السودان لأن يحققوا الإزدهار الإقتصادى وينعموا بالرخاء والإستقرار ، فهى ظهور طبقة الثراء الفاحش (الحرام) . وحدث هذا نتيجة لاستشراء الفساد فى كل مرافق وجسد الدولة وظهور ما يُسمى بالقطط السمان أو الفيلة السمان أو الدببة السمان ، سميهم كما تشاء ، الذين سيطروا على كل مفاصل الإستثمار والتجارة والمناشط الإقتصادية الأخرى ، وصار توجههم هو تحقيق المصلحة الشخصية بأى شكل وبأى ثمن وكدّسوا الدولارات والذهب والفضة وانتقلوا بالتعامل من مرحلة الفساد إلى مرحلة الإفساد وحولوا موارد البلد المشار إليها من هدف تحقيق المصلحة العامة إلى هدف تحقيق المصلحة الخاصة وكفى .
وعلى ذكر القطط السمان ، ربما أننى أول من استعمل هذا التعبير وكتب فى هذا الموضوع . ففى مقالة طويلة تحت عنوان : ” حتى لا يستحكم الإنهيار الإقتصادى فى السودان ” نشرت بجريدة الشرق الاوسط ، العدد 5286 بتاريخ 19/5/1993 م صفحة (20) ، أى بعد أربعة سنوات فقط من حدوث الإنقلاب ، تنبأت فيها بأن هذا الذى يحدث الآن من ضائقة إقتصادية غير مسبوقة سيحدث فعلاً ، وأنه ستظهر طبقة القطط السمان ، وقلت إن النمور الضامرة من فعل الجوع والعوز ستبدأ رحلتها لالتهام تلك القطط السمان لا محالة .
حسنا دكتور بعد إنفصال الجنوب وخسارة عوائد النفط ، إضافة إلى الحروب فى مناطق النزاعات ، مع هذه المعوقات هل لا يزال السودان يملك مقومات النهوض الإقتصادى ؟
الإجابة هى نعم وبكل تأكيد نعم ، ولكنها نعم مشروطة بعدد كبير من الشروط التى لا بد من توفرها لكى يحدث ذلك . أول هذه الشروط هو تغيير جذرى فى نظام الحكم فى السودان بحيث يُرضى الغالبية العظمى لأهل السودان . لقد صار فى حياتنا الآن كثيراً من الغوغائية والعنصرية والهرجلة والضوضاء السياسية والإستمانة لإقصاء الآخر . فلا بد من تغيير نمط السلوك السياسى والإجتماعى تغييراً جذرياً يقود إلى الإنصراف إلى العمل الجاد وإلى البحوث والتطوير وإلى المبادرة والابتكار والإبداع .
الشرط الثانى أن تكون قيادة البلاد هى المثال الذى يحتذى : فى السلوك الشخصى القويم وفى الوفاء بالعهود وفى العدل والإنصاف بين الناس وفى احترام الكائن البشرى وتقبل النقد وفى سلامة الذمة المالية وفى الإبتعاد عن الأنانية وفى التضحية برغباتها واحتياجاتها الشخصية من أجل تحقيق المصالح العامة وتجنب الإندفاع والتهور . الشرط الثالث ، الوقف الفورى لكل الحروب والنزاعات الدائرة فى السودان وفق رؤية تحقق العدالة والإنصاف . الشرط الرابع هو إجتثاث الفساد الذى استشرى وصارت له ممالك شديدة البأس والقوة ، ولكن دعونا نتذكر دائماً أن لا أحد أقوى من قوة الدولة . ويتم ذلك بسن القوانين الرادعة وإجراء المحاكمات الناجزة والعمل بلا هوادة لإستعادة واسترجاع الأموال العامة المنهوبة مهما كلف ذلك من جهد . وقرأت مقالاً فى الآونة الأخيرة لأحد المقربين جداً من رئاسة البلاد تذهب فى ذات الإتجاه ، وكان ذلك بالنسبة لى بمثابة شهد شاهدٌ من أهلها . الشرط الخامس هو تهيئة المناخ وإدخال الطمأنينة والشعور بالتقدير والإحترام لكل أهل السودان حتى يبدأوا فى الإنخراط فى مسيرة بناء الوطن . ولكن لابد أن يسبق ذلك رد الحقوق واطلاق الحريات وتوفير المناخ الملائم للحد الأدنى من التراضى الوطنى . وأن يكون ذلك بدرجة عالية من الشفافية والمصداقية . ولا بد من الحسم الناجز لقبيلة الرافضين لهذا التوجه وأوائك المتاجرين بحالة الفرقة والشتات . الشرط السادس هو حل كل الأجهزة القمعية وأجهزة التخويف والتهديد والإبتزاز . الشرط السابع هو إزالة الترهل الإدارى على مستوى المركز والولايات بتقليص عدد الوظائف الإدارية تقليصاً كبيراً . الشرط الثامن هو وضع قوانين شديدة الصرامة لوقف الإعتداء على المال العام وضبط حركته . الشرط التاسع هو النهوض بالتعليم نوعاً وكماً ، والإهتمام بالمعلم ودور العلم من مرحلة الأساس إلى المرحلة الجامعية واعتبار أن التعليم المتميز هو مفتاح النهضة والإزدهار الإقتصادى . وفى هذا السياق أيضاً يتوجب الإهتمام بالتعليم الفنى والمهنى وبالتدريب المستمر لتأهيل كوادر قادرة على مواكبة مرحلة التحول إلى الإقتصاد الرقمى وإقتصاد المعرفة ، وعلى إدارة صناعة التكنولوجيا وتقنية المعلومات . الشرط العاشر هو وضع خطة استراتيجية محددة الأهداف والمعالم ومقسمة إلى مراحل زمنية معلومة ، يقوم بوضعها ذوو الإختصاص من العلماء والخبراء السودانيين من داخل وخارج السودان ، ولا بأس من إشراك الخبرات الأجنبية إذا دعا الحال . ويشارك فى صياغة هذه الخطة جميع أهل السودان بالفكر والمشورة ويتراضوا على الأسبقيات والأولويات التى تراعى العدالة والإنصاف ، وتراعى التوازن القطاعى والجهوى والأقليمى وتراعى حقوق ومصالح الأقليات . الشرط الحادى عشر هو تفصيل الخطة الإستراتيجية وذلك عن طريق وضع السياسات المحفزة لزيادة الإنتاج وتحسين جودته وتشجيع الإستثمار المحلى والأجنبى . وفى هذا الخصوص ، فإن قصص النجاح من حولنا كثيرة ومتوفرة ، فهنالك إثيوبيا ورواندا وكينيا وتنزانيا ، ودونك ماليزيا وتركيا وكوريا الجنوبية . ولا بد أن يسبق ذلك تطبيق خطة طموحة للإرتقاء بقطاع البنية التحتية كطرق المرور السريع والسكك الحديد والطرق الريفية والمؤانئ البحرية والبرية والجوية وقطاع التخزين والتغليف ونحو ذلك . الشرط الثانى عشر هو أنه ينبغى على السودان أن يتحول تدريجياً ، ولكن بالسرعة المطلوبة ، من الزراعة إلى الصناعة عبر التصنيع الزراعى ، ثم إلى إنتاج السلع ذات القيمة المضافة الأعلى وصولاً إلى إشاعة إقتصاد المعرفة والإقتصاد الرقمى .
السودان يستطيع أن يحقق المعجزات وفى زمن وجيز إذا توفر له الإستقرار السياسى والحكم الرشيد وتم إجتثاث الفساد إحتثاثاً لا يقوم بعده أبداً ، وتم إسناد المهام للمؤهلين ذوى الدراية والخبرة من أبناء السودان بدلاً من إسنادها لأصحاب الولاء السياسى الذين لا تطالهم المساءلة ولا يخيفهم القانون .
تابعونا للحوار بقية