الحكمة
هناك دلالات ومعاني مختلفة لكل لفظة أو كلمة، تختلف باختلاف معرفة وتوجّه النّاطق بها وأصله ومذهبه؛ فمعنى لفظة معيّنة أو كلمة معيّنة عند اللّغويين والمهتمين بعلم الكلام، يختلف عن معنى نفس اللّفظة عند الفلاسفة، أو عند رجال الدّين، أو عند المتصوّفة أو غيرهم. لذلك ترى أن لفظ “حكمة” وسع الكثير من المعاني والدلالات، ولكل قومٍ مَقصِدٌ مختلفٌ من هذا اللفظ، وقد تتشابه تلك المقاصد جزئياً أو تختلف بالكلية عن بعضها البعض.
الحكمة في اللّغة تعني العلم والعمل، حيث تنقسم إلى شقّين: شق علمي أو معرفي وشق عملي أو تطبيقي، فلا يكفي أن تعلم لتكون حكيماً، بل يجب أن تعمل بما عرفت من علم، لذلك قيل عن الحكمة أنها: العلم بحقائق الأمور أو الأشياء، على ما هي عليه، والعمل بمُقتضا هذا العلم، فالحكمة ليست مجرد معرفة الحق أو الحقيقة، بل تشمل كلاً من العلم والعمل بهذا العلم. فيكون بذلك لفظ “حكيم” دالاً على من يكون قوله وعمله حقاً. والحكيم لا يخرج عن كونه إنساناً، والإنسان ناقص بطبيعته، لذلك قيل أيضاً عن الحكمة أنها يستفاد منها ما هو حق في نفس الشيء وذلك بحسب طاقة الإنسان.
أمّا الحكمة الإلهية فهي علم يبحث في أحوال ما هو خارج عن قدرتنا واختيارنا، وهي تنقسم إلى حكمة منطوقة وأخرى غير منطوقة، فالمنطوقة تدل على علوم وأحكام الشريعة، وأما غير المنطوقة تسمى أيضاً ب”الحكمة المسكوت عنها”، والحكمة المسكوت عنها هي أسرار الحقيقة التي لا يطلع عليها علماء الرّسوم أي علماء ما هو ظاهر من الشريعة، ولا يطلع عليها العوام من النّاس، فهو علم قد يهلكهم أو يضرّهم وهو فوق طاقتهم، لذلك اختصّت تلك الحكمة بالله وحده فهي حكمة إلهيّة، وهي بيد الله، يؤتي منها مَن يشاء مِن عباده الصالحين. وأذكر هنا ما رُوي عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يسير في المدينة، حيث استوقفتهم امرأة وأقسمت عليهم أن يدخلوا بيتها، فلمّا دخلوا وجدوا أولاد المرأة يلعبون حول نارٍ مضرمةٍ، فقالت المرأة: يا نبي الله.. الله أرحم بعباده.. أم أنا بأولادي؟، فقال عليه الصلاة والسلام: بل الله أرحم.. فإنه أرحم الراحمين.. ، فقالت المرأة: يا رسول الله أتراني أحب أن ألقي ولدي في النار؟ ، قال: لا، فقالت: فكيف يلقي الله عباده فيها وهو أرحم بهم؟، فبكى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: هكذا أوحي إليّ.
وهناك أيضاً “الحكمة” كما جاءت عند الفلاسفة اليونانيين؛ فكلمة فيلسوف المتعارف عليها عربياً مشتقة من لفظة إغريقية تعني “حب الحكمة”، وأُطلق على الفلاسفة لفظة “حكماء” لأنّه يطلبون الحكمة ويشتغلون بها. وقال البعض بإرجاع الصوفيّة إلى لفظة “سوفيا” واشتقاقها منها، وهي أيضاً إغريقية وتعني الحكمة، وقالوا أن المتصوّفة يطلبون الحكمة؛ ولكن لهم طريقة لإدراك الحقائق المستترة وراء المحسوسات غير التي يتبعها العلماء أو الفلاسفة، فيعتمد المتصوفة بطلبهم للحكمة على العلم اللدني، وهو نور قلبي من الله تعالى، يأتي بعد تزكية النفس وتطهيرها باجتناب المعاصي والشهوات.
يكثر الكلام عن الحكمة وعن معناها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، جاء وعرفّها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أنّها إدراك الطريق الذي يوصل إلى السعادة واختياره، كما قسّمها ابن سينا إلى حكمة نظرية وحكمة عملية، وشمل العلم الطبيعي والعلم الرياضي والعلم الإلهي بالحكمة النظرية، وقام الغزالي بتقسيم مشابه عندما تحدث عن أصناف وأقسام المعرفة والعلوم، ووردت أيضاً عن آخرين أنّ الحكمة تأتي على ثلاثة معاني؛ تبدأ “بالإيجاد” ثم “بالعلم” وتنتهي “بالأفعال المثلثة”، وقيل غيرها الكثير.
إذا أردت الوصول لأشمل معنى ممكن للفظة أو كلمة حكمة أو حكيم، فيجب النظر للمعنى من عدّة وجوه؛ من وجه اللّغة والاشتقاق – على اختلاف اللغات – ، ومن وجه الدين – على اختلاف الأديان والمذاهب والطوائف – ، ومن وجه العلماء والفلاسفة، والمتصوفة، حتى تقترب من تحقيق المعنى من لفظة “حكمة”.