الحقيقة والمعرفة , أفلاطون
الحقيقة
أفلاطون: الحقيقة كمعيار يدرك بالعقل
الحقيقة كعالم ما ورائي
تقيم الحقيقة لدى أفلاطون (القرن IV – V ) في عالم من الأفكار كانت النفس تتأمله قبل أن تلتحق بالجسد ( فيدون ، 242 ، b ، sq) ، إذن للوصول إلى الحقيقة لابد من بذل مجهود حتى نتمكن من ” الخروج من عالم التغير ” ، من العالم الأرضي والمحسوس ( الجمهورية ، VII ) .
ولذلك فإن دراسة الرياضيات تحتل مكانة كبرى في مجال تربية حراس المدينة (= الجنود ) ، وبالخصوص الممتازين منهم ؛ أي الذين سيصيرون فلاسفة/ملوكا في المستقبل ؛ وذلك لأن الرياضيات ” تجبر النفس على استخدام الذكاء الخالص من أجل الوصول إلى الحقيقة في ذاتها ” (نفس المرجع السابق ) .
العلم بوصفه استعادة وتذكرا
المعرفة أيضا هي مجرد تذكر ، والعلم استعادة لما هو معروف مسبقا : ” ليس البحث والتعلم شيئا آخر غير التذكر ” ( أفلاطون ـ محاورةمينون ـ 81c ) ، وذلك سيكون مستحيلا إذا كانت أرواحنا ” لم توجد من قبل في مكان ما قبل أن تتحد بصورتنا الإنسانية” ( فيدون ،78e ).
وإذا ما تساءل الناس بوضع أسئلة جيدة ، فإنهم سيكتشفون بأنفسهم، فضلا عن ذلك ، الحقيقة بخصوص أي شيء كان ، وهو ما سيعجزون عن فعله إذا لم يكونوا يمتلكون العالم قبليا بدواخلهم : وهكذا فإن سقراط الذي وضعه أفلاطون فوق الخشبة في محاورة مينون ( 856 ، وفي مواضع مختلفة ) يدعي القدرة على جعل عبد شاب يكتشف بنفسه حل مسأله هندسية هي من الصعوبة بمكان وهي : المعادلة من الدرجة الثانية عبر لعبة ذكية من الأسئلة والأجوبة ، وقد نجح سقراط في جعل العبد يرى أنه من الملائم ضرب أضلاع المربع في اثنين. يستنتج سقراط أن هذه المعارف ” إذا لم يكن العبد قد اكتشفها في هذه الحياة ” ، فمن الضروري أن يكون ” قد امتلكها سابقا في زمن آخر ، ووجد نفسه متمكنا منها مسبقا ” (نفس المرجع السابق).
أرسطو : الحقيقة كشيء موضوعي
الحقيقة مطابقة للأشياء ذاتها
” إن القضايا حقيقية ما دامت تتطابق مع الأشياء ذاتها ” كما صرح بذلك أرسطو (384 ـ 322 ق.م) في موسوعته الموسومةبالفهم ( الكتاب II الفقرة 9) ” أن تكون على حق ، كما قال أرسطو في الميتافيزيقا [105] هو أن ترى أن ما هو منفصل منفصل ، وأن ما هو متصل متصل ، وأن تكون على خطأ معناه أن تفكر بشكل مغاير لطبيعة الأشياء “.
الصادق والكاذب لا يوجدان تبعا لذلك إلا ” في الفكر ” ، ويتمثلان في إضافة موضوع إلى محمول أو نفيه عنه منشأ وخاصية . وإذا كان الفكر يربط ويفصل تبعا لحقيقة الشيء ، فإنه يمكننا أن نقول عن القضية الناجمة عن هذه العملية إنها قضية صادقة.
” وفي حالة العكس ( أي إذا ربط الفكر أو فصل بدون وجه حق بين موضوع ومحمول ) فإنه ينتهي إلى صياغة قضايا كاذبة ” (نفسالمرجع E,4).
مثال الحقيقة الموضوعية:
هنا نتعرف على مثال الحقيقة الموضوعية الحاضر خاصة في العلوم التجريبية(وليس في العلوم الفرضية ـ الاستنتاجية) : مثال التطابق بين الشيء المدروس والعقل الذي يدرسه ” إن وجود الشيء [ …. ] هو علة حقيقة الفهم ” كما قال القديس توما الأكويني بهذا الخصوص (Somme Théologique,Ia,q.26.art.1).
ديكارت : الحقيقة بوصفها بداهة
الشك بحث عن الحقيقة:
ليس الشيطان الماكر لدى ديكارت إلا ” دمية منهجية ” ، ” شيطان إبستمولوجي ” ( كوهيي ، فكر ديكارت الميتافيزيقي ، 1962) . يبقى أنه يجب علينا في مواجهة هذا الخيال المتصور من قبل ديكارت وهذا الكائن الخيالي الذي يجد لذة ومتعة في مخادعتنا بشكل دائم ، أن نعارضه بحقيقة لا تقبل الشك ، وهو اقتراح إذ يصمد أمام الشك الجذري ، فإنه يستطاع استخدامه منذ أو حلقة في سلسلة من الحقائق التي تعتبر يقينية منذ ذلك الحين . بيد أنه ، كما كتب ديكارت في ” المقالة في المنهج ” (1637 ، الجزء IV ) ” من خلال وقوفي على أن هذه الحقيقة : أنا أفكر إذن أنا موجود ، كانت من الثبات ومن اليقين إلى حد أن أكثر افتراضات الشك تطرفا كانت عاجزة عن زعزعتها أو تقويضها ، فقد قررت أنه يمكنني أن أتلقاها بدون تحرج بوصفها المبدأ الأول للفلسفة لتي كنت أبحث عنها وأرومها “.
الكوجيطو كنموذج للبداهة :
يعتبر الكوجيطو المتمثل في ” أنا أفكر” اليقين الأول الذي يفلت من الشك الجذري والمطلق ، ومن الممكن حسب ديكارت أن نستخدمه كنموذج للبداهة ، كنموذج لما هو حقيقي. ” ولو أنني لاحظت أن لا شيء في (أنا أفكر إذن أنا موجود ) مما يضمن لي أنني أقول الحقيقة ،إلا أنني رأيت بوضوح أنه لكي أفكر لا بد أن أكون موجودا أولا ، لذلك قررت أنني أستطيع أن أتبنى كقاعدة عامة أن الأشياء التي يتم تصورها بوضوح وتميز هي كلها أشياء حقيقية ” ( نفس المرجع).إن هذا الاستقراء (المتفائل جدا ) ، هذا التعميم الذي استسلم له ديكارت انطلاقا من اليقين الأول والوحيد ( أي وجود ” الأنا أفكر ” الذي توصل إليه يسمى تقليديا ” قاعدة البداهة “.
الصدق الإلهي:
” إنه بالإمكان أن نكون معرضين للاعتقاد بأن الله يخدعنا ” ، كما كتب ديكارت ، ” إذا ما كان فهمنا مهيئا بالطريقة التي تجعلنا نميز الصواب من الخطأ عندما نستعمله بشكل صائب ” (مبادئ الفلسفة ، الجزء الأول ، § 30 ـ 1644).
إن الله لا يخدعنا : لأنه خير أكثر منه واحدا . أن تكذب وأن تقول إن ” 2 و 3 يعطيان 6 ” عملية تأخذ فيها بالحسبان ما هو معطى سلفا ، ما تم خلقه سلفا من طرف شخص آخر ، وتأكيد العكس يمكن أن يكون من فعل ملاك منحط ، لا وحق الله. إن كائنا يتسم بالكمال والقوة لا يمكنه أن يأمر بـ ” جزأين ” في عملية خلقه ، أحدهما ( ما سيستعصي عليه الوصول إليه ) والذي تعطينا فيه 2 و 3 العدد 6 ، والآخر ( وهو ما يوصلني إليه عقلي) والذي تعطيني فيه 2 و 3 العدد 5 . إن الله إذن صادق بالضرورة.
الحقيقة والصلاحية
الحقيقة المادية والحقيقة الصورية.
نسمي مقدمات استدلال ما ” سوابق الاستدلال” ( ج. سالم ، مدخل إلى المنطق الصوري والرمزي ، 1987 ) ، أي القضية أو القضايا التي نستنتج منها نتيجة الاستدلال إياه ، بيد أنه يمكن أن يكون استدلال ما صادقا ( حقيقيا ) ، في حين أن نتيجته ومقدماته كاذبتان ماديا ( واقعيا ) .
هاك على سبيل المثال هذين الاستدلالين البسيطين :
كل مثلث مكون من ثلاثة أضلاع ، إذن كل ثلاثي الأضلاع مثلث.
كل مثلث مكون من أربعة أضلاع ، إذن بعض مربعي الأضلاع مثلثات .
” إن لحظة من التفكير ” كما كتب روبير بلانشي الذي استعرنا منه هذا المثال ، ” ستبرهن على أن الاستدلال الأول غير صالح ولو أن قضيتيه صحيحتان ، وأن الثاني صالح ولو أن قضيتيه خاطئتان ” ( مدخل للمنطق المعاصر،1968) ، وبعبارات أخرى : فكل قضية في الاستدلال الأول صادقة واقعيا ، غير أن الاستدلال خاطئ من الناحية الصورية ، أما الاستدلال الثاني ، فإن كل قضية فيه خاطئة واقعيا ، غير أن الاستدلال صحيح صوريا ( أو يتسم بالصلاحية ).
الخاصية الصورية للحقيقة
في العلوم الفرضية ـ الاستنتاجية.
لا يجب إذن أن نخلط صلاحية استدلال ما بحقيقة قضاياه المكونة له أو واقعيتها . إن الحقيقة الصورية تتجاهل الواقع ، إنها فقط اتفاق للفكر مع نفسه ، إلا أن هذه المسألة تخص العلوم الفرضية ـ الاستنتاجية وحدها ن والمتشكلة من المنطق والرياضيات. ” الحقيقة الرياضية ” كما يقول منظرو جماعة بورباكي ” تقيم الاستنتاج المنطقي فقط انطلاقا من المقدمات الموضوعة اعتباطيا عن طريق الأكسيومات ” ( عناصر تاريخ الرياضيات ، 1960).
إن مسألة الحقيقة إذن توضع في العلوم الفرضية ـ الاستنتاجية بشكل مغاير كليا لوضعها في علوم الطبيعة ؛ ففي حالة هذه العلوم الأخيرة يتعلق الأمر بالفعل وعلى الخصوص بما أسماه السكولائيون القروسطيون بتطابق الكر مع الواقع L’adéquatio rei et intellectus ، التطابق بين الشيء المدروس والعقل الذي يدرسه.
وضع مثال الحقيقة موضع تساؤل
ميكيافلي
يجب على الأمير أن يجيد اللجوء إلى الكذب وممارسته.
” لو كان الناس كلهم أخيارا ، كتب ميكيافيلي (1469 – 1527) ، فسيكون لزاما علينا أن نصدقهم القول دائما ” ، ” لكنهم ما داموا أشرارا و لا يحفظون لك عهدا أنت كذلك [ أنت : الأمير الذي أقدم له كتابي هذا ] فليس عليك أن تحفظ لهم عهدا ” (الأمير ، الفقرةXVIII المعنونة بـ : عن استخدام الكذب في فن الحكم ـ 1513).
” ومن ثمة فإن السيد الحكيم لا يمكن أن يفي بوعوده وعهوده إذا كان ذلك سينقلب عليه ، وإذا ما انعدمت الأسباب التي أدت إلى تقديم الوعود ” (نفس المرجع) ” فلن يعدم أمير أبدا المبررات التي تمكنه من تبرير نقضه لوعوده ” . وغالبا فإن ” أمور كل من يجيد فن التثعلب تسير من حسن إلى أحسن ” ، وفيما تبقى ” فإن من يخون يجد دائما من تسهل خيانته ” (نفس المرجع).
· نيتشه
الحقيقة كوهم
يعتقد نيتشه أنه أعاد من جديد اكتشاف المثال النسكي ـ الذي تجسد لمدة طويلة في القس ـ في إرادة الحقيقة لدى العلماء المعاصرين : ” لا ، إن هؤلاء هم أبعد ما يكون عن أن يكونوا عقولا حرة ، وذلك لأنهم لا زالوا يؤمنون بالحقيقة ” (جينيالوجيا الأخلاق ، III ، § 24 –1887). إن ” الحرية الحقيقية للعقل ” تضع ” الاعتقاد بالحقيقة ذاته موضع تساؤل” (نفس المرجع).
” من الذي انتصر بالفعل على الإله المسيحي ؟ .. إنها الأخلاق المسيحية ذاتها […] ، إنه الوعي المسيحي المهيج في الاعترافات الإيمانية ، والذي تطور إلى أن تحول إلى الوعي العلمي ، النقاء الفكري بأي ثمن ” (العلم المرح ، أفوريزم 357 – 1882) . ” في اليوم الذي اندحرت فيه أكذوبة ذلك ” العالم الآخر” الذي عودنا الدين على الإيمان به جاءنا العلم ببديل عنه ، أي بـ ” عالم آخر ” هو ” عالم حقيقته ” الخاصة به “.
· إينشتاين ـ باشلار
الحقيقة كخطأ مصحح
· إينشتاين : ليست هناك حقائق أولى
” لا شيء يجب اعتباره كما لو كان بديهيا جدا ” كتب ألبير إينشتاين في معرض تبسيطه لنظرية النسبية ؛ ” وإذا كنا نريد حقا أن نكون على صواب ، فيجب أن نخضع افتراضات الفيزياء التي نظر إليها لحد الآن كما لو كانت حقائق غير مشكوك فيها لتحليل (متفحص) ” ( إينشتاين وإينفلد ، تطور الأفكار في الفيزياء ، 1938).
· باشلار : ليست هناك إلا الأخطاء الأولى
إن إبستمولوجيا باشلار (1884 – 1962) ألحت على الخصوص على مسألة أنه لا يتم التوصل إلى الحقيقة ” إلا في نهاية نقاش سجالي ” ، إلا بعد ” قطيعة إبستمولوجية ” . ” و لا يمكن أن تكون هنالك حقائق أولى ” ، فليست هناك ، كما يفضل باشلار ان يقول إلا ” أخطاء أولى ” (المثالية الاستدلالية ، في أبحاث فلسفية ، 1934).
ملخص :
الحقيقة مفهوم هو من الوضوح بذاته إلى حد أنه يستحيل حسب ديكارت أن نضع له تعريفا. وأرسطو يجعل الحقيقة تقيم في تطابق القضايا التي نصدرها مع الأشياء ذاتها . وقد ألح الإبستمولوجيون المعاصرون ، وبخاصة باشلار ، على النسبية التاريخية لـ ” الحقيقة ” في ميدان البحث العلمي : فالعلم يتقدم بالفعل من خلال التصحيح المتوالي والمتعاقب لما اعتبر إلى حين معين عبارة عن حقائق لا يمكن الشك أو الارتياب فيها.