أشعار نزار قباني عن الغيرة
محتويات المقال
نزار قبّاني
شاعر دبلوماسي عربي، من عائلة قبّاني الدّمشقية العريقة، حاصل على شهادة الحقوق من جامعة دمشق، التحق بعد التّخرج بالعمل الدبلوماسيّ، وتنقّل خلاله بين القاهرة، وأنقرة، ولندن، ومدريد، وبكّين، ولندن. ترك العمل الدبلوماسي ليؤسّس في بيروت داراً للنّشر تحمل اسمه، وتفرّغ لكتابة الشّعر.
بدأ أول رحلته الشّعرية بكتابة الشّعر التّقليدي ثمّ انتقل إلى الشّعر العمودي، ويعتبر مؤسّساً لمدرسة شعريّة وفكريّة، تناولت دواوينه الأربعة الأولى قصائد رومانسيّة، لكن ديوانه (قصائد من نزار قباني) كان نقطة تحوّل في شعره، ففي قصيدة (خبز وحشيش وقمر) انتقد بشكل لاذع خمول المجتمع العربيّ.
تزوّج نزار مرّتين: الأولى من ابنة عمه (زهراء آقبيق)، والثّانية عراقية هي (بلقيس الرّاوي) و أنجب منهما، توفي ابنه توفيق في السّابعة عشرة من عمره بمرض القلب فرثاة في قصيدة (إلى الأمير الدمشقي توفيق قباني). وفي عام 1982 قُتلت بلقيس في انفجار السّفارة العراقيّة ببيروت، وترك رحيلها ألماً سيّئاً في نفسه ورثاها بقصيدة شهيرة تحمل اسمها. توفّي في لندن عام 1998عن عمر يناهز 75 عاما قضى أكثر من 50 عاماً منها في الحبّ، والسّياسة، والثورة. (1)
أجمل أشعار نزار قبّاني
هناك الكثير من قصائد نزار مميّزة ورائعة ويصعب جمعها مرّة واحدة، لكن نختار لكم بعضها ونتمنّى أن تعجبكم.
قولي أحبّك
قولي أحبّك
كي تزيد وسامتي
فبغير حبّك لا أكون جميلا
قولي أحبّك كي تصير أصابعي
ذهباً وتصبح جبهتي قنديلا
الآن قوليها ولا تتردّدي بعض الهوى
لا يقبل التّأجيلا
سأغيّر التّقويم لو أحببتِني
أمحو فصولا أو أضيف فصولا
وسينتهي العصر القديم على يديّ
وأقيم عاصمة النّساء بديلا
ملك أنا لو تُصبحين حبيبتي
أغزو الشّموس مراكباً وخيولا
لا تخجلي منّي فهذه فرصتي
لأكون بين العاشقين رسولا
كتاب الحبّ
ما دمت يا عصفورتي الخضراء
حبيبتي
إذاً فإنّ الله في السّماء
تسألني حبيبتي
ما الفرق ما بيني وما بين السّما ؟
الفرق ما بينكما
أنّك إن ضحكت يا حبيبتي
أنسى السّما
الحبّ يا حبيبتي
قصيدة جميلة مكتوبة على القمر
الحب مرسوم على جميع أوراق الشّجر
الحب منقوش على
ريش العصافير، وحبّات المطر
لكن أيّ امرأة في بلدي
إذا أحبّت رجلاً
ترمى بخمسين حجر
حين أنا سقطت في الحبّ
تغيّرت
تغيّرت مملكة الرّب
صار الدّجى ينام في معطفي
وتشرق الشّمس من الغرب
يا ربّ قلبي لم يعد كافياً
لأنّ من أحبّها تعادل الدّنيا
فضع بصدري واحداً غيره
يكون في مساحة الدّنيا
ما زلت تسألني عن عيد ميلادي
سجّل لديك إذاً ما أنت تجهله
تاريخ حبّك لي تاريخ ميلادي
لو خرج المارد من قمقمه
وقال لي: لبيك
دقيقة واحدة لديك
تختار فيها كل ما تريده
من قطع الياقوت والزّمرد
لاخترت عينَيْكِ بلا تردد
ذات العينين السّوداوين
ذات العينين الصاحيتين الممطرتين
لا أطلب أبداً من ربي
إلا شيئين:
أن يحفظ هاتين العينين
ويزيد بأيامي يومين
كي أكتب شعراً
في هاتين اللّؤلؤتين
لو كنتُ يا صديقتي
بمستوى جنوني
رميتِ ما عليك من جواهر
وبعتِ ما لديك من أساور
ونمتِ في عيوني
أشكوك للسّماء
أشكوك للسّماء
كيف استطعتِ، كيف، أن تختصري
جميع ما في الكون من نساء
لأن كلام القواميس مات
لأن كلام المكاتيب مات
لأن كلام الرّوايات مات
أريد اكتشاف طريقة عشق
أحبّك فيها بلا كلمات
أنا عنك ما أخبرتهم، لكنّهم
لمحوك تغتسلين في أحداقي
أنا عنّك ما كلّمتهم، لكنّهم
قرأوك في حبري وفي أوراقي
للحبّ رائحة وليس بوسعها
ألّا تفوح مزارع الدّراق
أكره أن أحبّ مثل النّاس
أكره أن أكتب مثل النّاس
أودّ لو كان فمي كنيسة
وأحرفي أجراس
ذوبّت في غرامك الأقلام
من أزرق، وأحمر، وأخضر
حتّى انتهى الكلام
علّقت حبي لك في أساور الحمام
ولم أكن أعرف يا حبيبتي
أنّ الهوى يطير كالحمام
عدّي على أصابع اليدين ما يأتي
فأولاً: حبيبتي أنت
وثانياً: حبيبتي أنت
وثالثاً: حبيبتي أنت
ورابعاً وخامساً
وسادساً وسباعاً
وثامناً وتاسعاً
وعاشراً: حبيبتي أنت
حبّك يا عميقة العينين
تطرّف
تصوّف
عبادة
حبّك مثل الموت والولادة
صعب بأن يُعاد مرّتين
عشرين ألف امرأة أحببت
عشرين ألف امرأة جرّبت
وعندما التقيت فيك يا حبيبتي
شعرت أنّي الآن قد بدأت
لقد حجزت غرفة لاثنين في بيت القمر
نقضي بها نهاية الأسبوع يا حبيبتي
فنادق العالم لا تعجبني
الفندق الذي أحب أن أسكنه هو القمر
لكنّهم هنالك يا حبيبتي
لا يقبلون زائراً يأتي بغير امرأة
فهل تجيئين معي
يا قمري، إلى القمر
19
لن تهربي منّي فإنّي رجلٌ مُقدّرعليك
لن تخلصي منّي فإنّ الله قد أرسلني إليك
فمرّة أطلع من أرنبتيّ أذنيك
ومرّة أطلع من أساور الفيروز في يديك
وحين يأتي الصّيف يا حبيبتي
أسبح كالأسماك في بُحْرَتَيْ عينيك
لو كنت تذكرين كل كلمة
لفظتها في فترة العامين
لو أفتح الرّسائل الألف التي
كُتبت في عامين كاملين
كنا بآفاق الهوى
طرنا حمامتين
وأصبح الخاتم في
إصبعكِ الأيسر خاتمين
لماذا، لماذا، منذ صرت حبيبتي
يضيء مدادي، والدّفاترتعشب
تغيّرت الأشياء منذ عشقتني
وأصبحت كالأطفال بالشّمس ألعب
ولستُ نبيّاً مُرسلاً غير أنّني
أصير نبيّاً عندما عنكِ أكتبُ
محفورة أنتِ على وجه يدي
كأسطر كوفيّة
على جدار مسجد
محفورة في خشب الكرسي ياحبيبتي
وفي ذراع المقعد
وكلما حاولتِ أن تبتعدي
دقيقة واحدة
أراك في جوف يدي
لا تحزني
إن هبط الرّواد في أرض القمر
فسوف تبقين بعيني دائماً
أحلى قمر
حين أكون عاشقاً
أشعر أنّي ملك الزّمان
أمتلك الأرض وما عليها
وأدخل الشّمس على حصاني
حين أكون عاشقاً
أجعل شاه الفرس من رعيتي
وأخضع الصّين لصولجاني
وأنقل البحار من مكانها
ولو أردتُ أوقف الثّواني
حين أكون عاشقاً
أصبح ضوءاً سائلاً
لا تستطيع العين أن تراني
وتصبح الأشعار في دفاتري
حقول ميموزا وأقحوان
حين أكون عاشقاً
تنفجر المياه من أصابعي
وينبت العشب على لساني
حين أكون عاشقاً
أغدو زماناً خارج الزّمان
إنّي أحبّك عندما تبكينا
وأحبّ وجهك غائماً وحزينا
الحزن يصهرنا معا ويذيبنا
من حيث لا أدري ولا تدرينا
تلك الدّموع الهاميات أحبّها
وأحبّ خلف سقوطها تشرينا
بعض النّساء وجوههنّ جميلة
وتصير أجمل عندما يبكينا
أخطأت يا صديقتي بفهمي
فما أعاني عقدة
ولا أنا أوديب في غرائزي وحلمي
لكن كل ّامرأة أحببتها
أردت أن تكون لي
حبيبتي وأمّي
من كلّ قلبي أشتهي
لو تصبحين أمّي
جميع ما قالوه عنّي صحيح
جميع ما قالوه عن سمعتي
في العشق والنّساء قول صحيح
لكنّهم لم يعرفوا أنّني
أنزف في حبّك مثل المسيح
يحدث أحياناً أن أبكي
مثل الأطفال بلا سبب
يحدث أن أسأم من عينيك الطّيبتين
بلا سبب
يحدث أن أتعب من كلماتي
من أوراقي من كتبي
يحدث أن أتعب من تعبي
عيناك مثل اللّيلة الماطرة
مراكبي غارقة فيها
كتابتي منسية فيها
إنّ المرايا ما لها ذاكره
كتبت فوق الرّيح
اسم التي أحبّها
كتبت فوق الماء
لم أدرِ أنّ الرّيح
لا تحسن الإصغاء
لم أدرِ أنّ الماء
لا يحفظ الأسماء
ما زلتِ يا مسافره
ما زلت بعد السّنة العاشرة
مزروعة
كالرّمح في الخاصرة
كرمال هذا الوجه والعينين
قد زارنا الرّبيع هذا العام مرّتين
وزارنا النّبيُ مرّتين
أهطل في عينيك كالسّحابة
أحمل في حقائبي إليهما
كنزاً من الأحزان والكآبه
أحمل ألف جدول
وألف ألف غابة
وأحمل التّاريخ تحت معطفي
وأحرف الكتابة
أروع ما في حبّنا أنّه
ليس له عقل ولا منطق
أجمل ما في حبّنا أنّه
يمشي على الماء ولا يغرق
لا تقلقي يا حلوة الحلوات
ما دمتِ في شعري وفي كلماتي
قد تكبرين مع السّنين وإنّما
لن تكبرين أبداً على صفحاتي
ليس يكفيك أن تكوني جميلة
كان لابدّ من مرورك يوماً
بذراعيَّ
كي تصيري جميلة
وكلّما سافرت في عينيك ياحبيبتي
أحسّ أنّي راكب سجّادة سحريّة
فغيمة ورديّة ترفعني
وبعدها تأتي البنفسجيّة
أدور في عينيك يا حبيبتي
أدور مثل الكرة الأرضيّة
كم تشبهين السّمكة
سريعة في الحبّ مثل السّمكة
قتلتِ ألف امرأة في داخلي
وصرت أنت الملكة
أجمل مافيك هو الجنون
أجمل ما فيك، إذا سمحت
خروج نهديك على القانون
تعرّي فمنذ زمان طويل
على الأرض لم تسقط المعجزات
تعرّي، تعرّي
أنا أخرس
وجسمك يعرف كلّ اللّغات
كان نهداك في العصور الخوالي
ينشدان السّلام مثل الحمامة
كيف ما بين ليلة وضحاها
صار نهداك مثل يوم القيامة؟
ضعي أظافرك الحمراء في عنقي
ولا تكوني معي شاة ولا حملا
وقاوميني بما أوتيت من حيل
إذا أتيتك كالبركان مشتعلا
أحلى الشّفاه التي تعصي وأسوأها
تلك الشفاه التي دوماً تقول: بلى
كم تغيّرت بين عام وعام
كان همي أن تخلعي كلّ شيء
وتظلّي كغابة من رخام
وأنا اليوم لا أريدك إلّا
أن تكوني إشارة استفهام
وكلما انفصلتُ عن واحدة
أقول في سذاجة
سوف تكون المرأة الأخيره
والمرة الأخيرة
وبعدها سقطت في الغرام ألف مرة
ومتّ ألف مرة
ولم أزل أقول
(تلك المرّة الأخيرة)
عبثاً ما أكتب سيدتي
إحساسي أكبر من لغتي
وشعوري نحوك يتخطّى
صوتي، يتخطّى حنجرتي
عبثاً ما أكتب ما دامت
كلماتي أوسع من شفتيّ
أكرهها كلّ كتاباتي
مشكلتي أنّكِ مشكلتي
لأنّ حبّي لك فوق مستوى الكلام
قرّرت أن أسكت، والسّلام.
حبيبتي و المطر
أخاف أن تمطر الدّنيا ولستِ معي
فمنذ رحتِ وعندي عقدة المطر
كان الشّتاء يغطيني بمعطفه
فلا أفكّر في برد ولا ضجر
كانت الرّيح تعوي خلف نافذتي
فتهمسين تمسك هاهنا شعري
والآن اجلس والأمطار تجلدني
على ذراعي، على وجهي، على ظهري
فمن يدافع عني يا مسافرة
مثل اليّمامة بين العين و البصر
كيف أمحوك من أوراق ذاكرتي
وأنت في القلب مثل النّقش في الحجر
قارئة الفنجان
جَلَسَت والخوفُ بعينيها
تتأمَّلُ فنجاني المقلوب
قالت:
يا ولدي.. لا تَحزَن
فالحُبُّ عَليكَ هوَ المكتوب
يا ولدي،
قد ماتَ شهيداً
من ماتَ على دينِ المحبوب
فنجانك دنيا مرعبةٌ
وحياتُكَ أسفارٌ وحروب..
ستُحِبُّ كثيراً يا ولدي..
وتموتُ كثيراً يا ولدي
وستعشقُ كُلَّ نساءِ الأرض..
وتَرجِعُ كالملكِ المغلوب
بحياتك يا ولدي امرأةٌ
عيناها، سبحانَ المعبود
فمُها مرسومٌ كالعنقود
ضحكتُها موسيقى و ورود
لكنَّ سماءكَ ممطرةٌ..
وطريقكَ مسدودٌ.. مسدود
فحبيبةُ قلبكَ.. يا ولدي
نائمةٌ في قصرٍ مرصود
والقصرُ كبيرٌ يا ولدي
وكلابٌ تحرسُهُ.. وجنود
وأميرةُ قلبكَ نائمةٌ..
من يدخُلُ حُجرتها مفقود..
من يطلبُ يَدَها..
من يَدنو من سورِ حديقتها.. مفقود
من حاولَ فكَّ ضفائرها..
يا ولدي..
مفقودٌ.. مفقود
بصَّرتُ.. ونجَّمت كثيراً
لكنّي.. لم أقرأ أبداً
فنجاناً يشبهُ فنجانك
لم أعرف أبداً يا ولدي..
أحزاناً تشبهُ أحزانك
مقدُورُكَ.. أن تمشي أبداً
في الحُبِّ .. على حدِّ الخنجر
وتَظلَّ وحيداً كالأصداف
وتظلَّ حزيناً كالصّفصاف
مقدوركَ أن تمضي أبداً..
في بحرِ الحُبِّ بغيرِ قُلوع
وتُحبُّ ملايينَ المَرَّاتِ…
وترجعُ كالملكِ المخلوع..
القصيدة المتوحّشة
أحبيني .. بلا عقد
وضيعي في خطوط يدي
أحبيني .. لأسبوع .. لأيام .. لساعات..
فلست أنا الذي يهتم بالأبد..
أنا تشرين .. شهر الريح،
والأمطار .. والبرد..
أنا تشرين فانسحقي
كصاعقة على جسدي..
أحبيني ..
بكل توحش التتر..
بكل حرارة الأدغال
كل شراسة المطر
ولا تبقي ولا تذري..
ولا تتحضري أبدا..
فقد سقطت على شفتيك
كل حضارة الحضر
أحبيني..
كزلزال .. كموت غير منتظر..
وخلي نهدك المعجون..
بالكبريت والشرر..
يهاجمني .. كذئب جائع خطر
وينهشني .. ويضربني ..
كما الأمطار تضرب ساحل الجزر..
أنا رجل بلا قدر
فكوني .. أنت لي قدري
وأبقيني .. على نهديك..
مثل النقش في الحجر..
أحبيني .. ولا تتساءلي كيفا..
ولا تتلعثمي خجلا
ولا تتساقطي خوفا
أحبيني .. بلا شكوى
أيشكو الغمد .. إذ يستقبل السيفا؟
وكوني البحر والميناء..
كوني الأرض والمنفى
وكوني الصحو والإعصار
كوني اللين والعنفا..
أحبيني .. بألف وألف أسلوب
ولا تتكرري كالصيف..
إني أكره الصيفا..
أحبيني .. وقوليها
لأرفض أن تحبيني بلا صوت
وأرفض أن أواري الحب
في قبر من الصمت
أحبيني .. بعيدا عن بلاد القهر والكبت
بعيدا عن مدينتنا التي شبعت من الموت..
بعيدا عن تعصبها..
بعيدا عن تخشبها..
أحبيني .. بعيدا عن مدينتنا
التي من يوم أن كانت
إليها الحب لا يأتي..
إليها الله .. لا يأتي ..
أحبيني .. ولا تخشي على قدميك
– سيدتي – من الماء
فلن تتعمدى امرأة
وجسمك خارج الماء
وشعرك خارج الماء
فنهدك .. بطة بيضاء ..
لا تحيا بلا ماء ..
أحبيني .. بطهري .. أو بأخطائي
بصحوي .. أو بأنوائي
وغطيني ..
أيا سقفا من الأزهار ..
يا غابات حناء ..
تعري ..
واسقطي مطرا
على عطشي وصحرائي ..
وذوبي في فمي .. كالشمع
وانعجني بأجزائي
تعري .. واشطري شفتي
إلى نصفين .. يا موسى بسيناء..
حقائب الدّموع البكاء
إذا أتى الشّتاء..
وحركت رياحه ستائري
أحس يا صديقتي
بحاجة إلى البكاء
على ذراعيك..
على دفاتري..
إذا أتى الّشتاء
وانقطعت عندلة العنادل
وأصبحت ..
كل العصافير بلا منازل
يبتدئ النّزيف في قلبي .. وفي أناملي.
كأنّما الأمطار في السّماء
تهطل يا صديقتي في داخلي..
عندئذ .. يغمرني
شوق طفولي إلى البكاء ..
على حرير شعرك الطّويل كالسّنابل..
كمركب أرهقه العياء
كطائر مهاجر..
يبحث عن نافذة تضاء
يبحث عن سقف له ..
في عتمة الجدائل ..
إذا أتى الشّتاء..
واغتال ما في الحقل من طيوب..
وخبأ النجوم في ردائه الكئيب
يأتي إلى الحزن من مغارة المساء
يأتي كطفل شاحب غريب
مبلّل الخدّين والرّداء..
وأفتح الباب لهذا الزّائر الحبيب
أمنحه السّرير .. والغطاء
أمنحه .. جميع ما يشاء
من أين جاء الحزن يا صديقتي ؟
وكيف جاء؟
يحمل لي في يده..
زنابقا رائعة الشّحوب
يحمل لي ..
حقائب الدّموع والبكاء..
رسائل من سيّدة حاقدة
لا تدخُلي!
وسددتَ في وجهي الطّريق بمرفقيكَ … وزعمتَ لي …
أنّ الرّفاق أتوا إليك … أهُمُ الرّفاق أتوا إليك
أم أن سيدةً لديك … تحتلُّ بعدي ساعديك ؟
وصرختُ محتدماً: قفي! والريحُ … تمضغُ معطفي …
والذّل يكسو موقفي … لا تعتذر يا نذلُ لا تتأسّف
أنا لستُ آسفةً عليك … لكن على قلبي الوفي
قلبي الذي لم تعرِفِ … ماذا لو أنّكَ يا دني … أخبرتني
أنّي انتهى أمري لديكَ … فجميعُ ما وشوشتني
أيامَ كنتَ تحبنيَ … من أنّني …
بيتُ الفراشةِ مسكني … وغدي انفراطُ السّوسنِ
أنكرتهُ أصلاً كما أنكرتني …
لا تعتذر …
فالإثمُ … يحصدُ حاجبيكَ وخطوط أحمرها تصيحُ بوجنتيك
ورباطُكَ … المشدوه … يفضحُ
ما لديكَ … ومن لديكَ
يا من وقفتُ دمي عليكَ
وذللتنيَ ونفضتني
كذبابةٍ عن عارضيك
ودعوتُ سيدةً إليكَ ………… وأهنتني
من بعد ما كنتُ الضّياء بناظريك …
إني أراها في جوار الموقدِ … أخذت هُنالك مقعدي …
في الرّكن … ذات المقـعدِ …
وأراك تمنحها يداً … مثلوجةً … ذاتَ اليدِ …
سترددُ القصص التي أسمعتني …
ولسوف تخبرها بما أخبرتني …
وسترفع الكأس التي جرّعتني …
كأساً بها سممتني
حتّى إذا عادت إليكُ … لتروُد موعدها الهني …
أخبرتها أن الرفاق أتوا إليك …
وأضعت رونقها كما ضيّعتني …
أيظنّ
أيظنّ أنّي لعبة بيديه؟
أنا لا أفكّر في الرّجوع إليه
اليوم عاد كأنّ شيئاً لم يكن
وبراءة الأطفال في عينيه
ليقول لي: إنّي رفيقة دربه
وبأنّني الحبّ الوحيد لديه
حمل الزّهور إليّ .. كيف أرده
وصباي مرسوم على شفتيه
ما عدت أذكر .. والحرائق في دمي
كيف التجأت أنا إلى زنديه
خبّأت رأسي عنده .. وكأنّني
طفل أعادوه إلى أبويه
حتّى فساتيني التي أهملتها
فرحت به .. رقصت على قدميه
سامحته .. وسألت عن أخباره
وبكيت ساعات على كتفيه
وبدون أن أدري تركت له يدي
لتنام كالعصفور بين يديه ..
ونسيت حقدي كلّه في لحظة
من قال إني قد حقدت عليه؟
كم قلت إنّي غير عائدة له
ورجعت .. ما أحلى الرّجوع إليه ..
خبز وحشيش وقمر
عندما يولدُ في الشّرق القمرْ..
فالسّطوحُ البيضُ تغفو
تحت أكداس الزَّهَرْ..
يترك النّاسُ الحوانيت و يمضون زُمَرْ
لملاقاةِ القَمَرْ..
يحملون الخبزَ.. والحاكي..إلى رأس الجبالْ
ومعدات الخدَرْ..
ويبيعونَ..ويشرونَ..خيالْ
وصُوَرْ..
ويموتونَ إذا عاش القمر..
ما الذي يفعلهُ قرصُ ضياءْ؟
ببلادي..
ببلاد الأنبياءْ..
وبلاد البسطاءْ..
ماضغيّ التبغ و تجَّار الخدَرْ..
ما الذي يفعله فينا القمرْ؟
فنضيع الكبرياء..
ونعيش لنستجدي السّماءْ..
ما الذي عند السّماءْ؟
لكُسالى..ضعفاءْ..
يستحيلون إلى موتى إذا عاش القمرْ..
و يهزّون قبور الأولياءْ..
علَّها ترزقهم رزّاً.. وأطفالاً..قبورُ الأولياءْ
ويمدّون السّجاجيدَ الأنيقات الطُرَرْ..
يتسلّون بأفيونٍ نسميه قَدَرْ..
و قضاءْ..
في بلادي.. في بلاد البسطاءْ..
أيّ ضعفً و انحلالْ..
يتولاّنا إذا الضّوء تدفقْ
فالسّجاجيدُ.. وآلاف السّلالْ..
و قداحُ الشّاي .. والأطفالُ..تحتلُّ التلالْ
في بلادي
حيث يبكي السّاذجونْ
ويعيشونَ على الضّوء الذي لا يبصرونْ..
في بلادي
حيث يحيا النّاسُ من دونِ عيونْ..
حيث يبكي السّاذجونْ..
و يصلّونَ..
و يزنونَ..
و يحيونَ اتّكالْ..
منذ أن كانوا يعيشونَ اتّكالْ..
و ينادون الهلال:
(يا هلالْ..
أيُّها النّبع الذي يُمطر ماسْ..
و حشيشياً..و نعاسْ..
أيّها الرّب الرّخاميُّ المعلقْ
أيّها الشّيءُ الذي ليس يصدَّق)
دمتَ للشّرق..لنا
عنقود ماسْ
للملايين التي عطَّلت فيها الحواسْ
في ليالي الشّرق لمَّا..
يبلغُ البدرُ تمامُهْ..
يتعرَّى الشّرقُ من كلَِ كرامَهْ
و نضالِ..
فالملايينُ التي تركض من غير نعالِ..
والتي تؤمن في أربع زوجاتٍ..
في يوم القيامَهْ..
الملايين التي لا تلتقي بالخبزِ..
إلّا في الخيالِ..
والتي تسكن في اللّيل بيوتاً من سُعالِ..
أبداً.. ما عرفت شكلَ الدّواءْ..
تتردَّى جُثثاً تحت الضّياءْ..
في بلادي.. حيث يبكي الأغبياءْ..
ويموتون بكاءْ..
كلَّما حرَّكهمْ عُودٌ ذليلٌ..و (ليالي)
ذلك الموتُ الذي ندعوهُ في الشّرقِ..
(ليالي)..وغناءْ
في بلادي..
في بلاد البسطاءْ..
حيث نجترُّ التّواشيح الطويلة..
ذلكَ السّثلُّ الذي يفتكُ بالشّرقِ..
التّواشيح الطويلة..
شرقنا المجترُّ..تاريخاً
وأحلاماً كسولةْ..
وخرافاتٍ خوالي..
شرقُنا، الباحثُ عن كلِّ بطولةْ..
في أبي زيد الهلالي..
شؤون صغيرة
تمرّ بها أنت .. دون التفات
تساوي لدّي حياتي
جميع حياتي..
حوادث .. قد لا تثير اهتمامك
أعمّر منها قصور
وأحيا عليها شهور
وأغزل منها حكايا كثيرة
وألف سماءٍ..
وألف جزيرة..
شؤون ..
شؤونك تلك الصّغيرة
فحين تدخن أجثو أمامك
كقطّتك الطّيبة
وكلّي أمان
ألاحق مزهوّة معجبة
خيوط الدّخان
توزّعها في زوايا المكان
دوائر.. دوائر
وترحل في آخر اللّيل عنّي
كنجم، كطيب مهاجر
وتتركني يا صديق حياتي
لرائحة التّبغ والذّكريات
وأبقى أنا ..
في صقيع انفرادي
وزادي أنا .. كلّ زادي
حطام السّجائر
وصحناً .. يضم رماداً
يضّم رمادي..
وحين أكون مريضة
وتحمل أزهارك الغالية
صديقي.. إليّ
وتجعل بين يديك يديّ
يعود لي اللّون والعافية
وتلتصق الشّمس في وجنتي
وأبكي .. وأبكي.. بغير إرادة
وأنت ترد غطائي عليّ
وتجعل رأسي فوق الوسادة..
تمنّيت كلّ التّمني
صديقي .. لو أنّي
أظلّ .. أظلّ عليلة
لتسأل عنّي
لتحمل لي كل يوم
وروداً جميلة..
وإن رنَّ في بيتنا الهاتف
إليه أطير
أنا .. يا صديقي الأثير
بفرحة طفل صغير
بشوق سنونوّة شاردة
وأحتضن الآلة الجامدة
وأعصر أسلاكها الباردة
وأنتظر الصوت ..
صوتك يهمي علي
دفيئاً .. مليئاً .. قويّ
كصوت نبيّ
كصوت ارتطام النّجوم
كصوت سقوط الحليّ
وأبكي .. وأبكي ..
لأنّك فكرت في
لأنّك من شرفات الغيوب
هتفت إلي..
ويوم أجيء إليك
لكي أستعير كتاب
لأزعم أني أتيت لكي أستعير كتاب
تمدّ أصابعك المتعبة
إلى المكتبة..
وأبقى أنا .. في ضباب الضّباب
كأنّي سؤال بغير جواب..
أحدّق فيك وفي المكتبة
كما تفعل القطّة الطّيبة
تراك اكتشفت؟
تراك عرفت؟
بأنّي جئت لغير الكتاب
وأنّي لست سوى كاذبة؟
وأمضى سريعاً إلى مخدعي
أضم الكتاب إلى أضلعي
كأنّي حملت الوجود معي
وأشعل ضوئي .. وأسدل حولي السّتور
وأنبش بين السّطور .. وخلف السّطور
وأعدو وراء الفواصل .. أعدو
وراء نقاط تدور
ورأسي يدور ..
كأنّي عصفورة جائعة
تفتّش عن فضلات البذور
لعلك .. يا .. يا صديقي الأثير
تركت بإحدى الزّوايا ..
عبارة حبّ قصيرة ..
جُنينة شوق صغيرة
لعلك بين الصّحائف خبأت شيا
سلاماً صغيراً.. يُعيد السّلام إليّا ..
وحين نكون معاً في الطّريق
وتأخذ – من غير قصد – ذراعي
أحسّ أنا يا صديق ..
بشيء عميق
بشيء يشابه طعم الحريق
على مرفقي ..
وأرفع كفّي نحو السّماء
لتجعل دربي بغير انتهاء
وأبكي .. وأبكي بغير انقطاع
لكي يستمرّ ضياعي
وحين أعود مساءً إلى غرفتي
وأنزع عن كتفي الرّداء
أحسّ – وما أنت في غرفتي –
بأنّ يديك
تلفّان في رحمة مرفقي
وأبقى لأعبد يا مُرهقي
مكان أصابعك الدّافئات
على كمّ فستانيَ الأزرقِ ..
وأبكي .. وأبكي .. بغير انقطاع
كأنّ ذراعيَ ليست ذراعي..