مشاكل الاباء تؤثر على الابناء ، متاعب الأبناء من متاعب الآباء
ما أكثر الحالات التي تمتلئ بها عيادات الأطباء النفسانيين لأطفال يعانون من إضطرابات عصبية أو عقد نفسية أو يأتون بتصرفات شاذة، وأعمال غير طبيعية.. أطفال منطوون على أنفسهم لا يحبون الإختلاط بأحد وأطفال مصابون بالخجل.. وأطفال اعتادوا أن “يأخذوا” ما ليس لهم، وأطفال يبكون ويصرخون بلا سبب، وأطفال يخافون الظلام.. إلى غير ذلك من أعراض ظاهرة وغير ظاهرة مما تسبب قلقاً للآباء الذين يحارون في تفسيرها ومعرفة دوافعها وأسبابها..
ترى ما أسباب هذه الظواهر غير المألوفة التي تصيب الأطفال وتكبر معهم ويستفحل خطرها؟
– الأُم هي السبب:
يقول الدكتور فرديناند لندبرج (Dr. Ferdinand Lundberg) والدكتور فارنهام (Farnham) مؤلفا كتاب “المرأة الحديثة”. إنّ الأُم هي السبب الأساسي في تلك المتاعب التي يعاني منها الأطفال.. فالحقيقة التي لا يختلف عليها شخصان هي أن معظم هذه الحالات الشاذة تولد وتنمو وتتطوّر في البيت!
فتصرفات الأُم إزاء أبنائها، وطريقة ترجمتها لمشاعرها، وكيفية معالجتها لمشاكلهم.. كل هذا يؤثر تأثيراً مباشراً في نفسيّة الطفل الصغير وفي تطوّر شخصيّته ومسلكه وأسلوبه في معاملته لأخوته وأصدقائه وزملائه وفي نظرته للحياة نفسها.
– أربعة أنواع من الأُمّهات:
وهناك أنواع عديدة من الأُمّهات.. هناك الأُم التي تلفظ طفلها لسبب أو لآخر، كأن تكون قد ولدته في وقت لم تكن الأسرة في وضع مادي وإجتماعي يسمح لها بإستقباله، أو لأن وصوله حرمها من مواصلة عملها الذي كانت ترتزق منه لتعاون زوجها في تحمل مسؤوليات الحياة، فتهمل طفلها وتبعده عنها، وقد يتطوّر شعورها هذا مع الزمن إلى كراهية..
ومثل هذه الأُم تفعل ما تفعل دون إدراك منها لحقيقة مشاعرها، وإنعكاس تلك المشاعر على مسلكها إزاء طفلها.. ولو أن كل تصرفاتها تحمل معنى هذه الكراهية.. فهي دائمة الشكوى منه، ثمّ هي لا تشعر بالسعادة التي تشعر بها أي أُم أخرى لأي عمل أو أيّة حركة يأتي بها طفلها.. إن كل حركاته وتصرفاته تثير الضجر في نفسها وتغضبها.
– بكاء وصراخ وفشل:
ترى ماذا يكون مصير هذا الطفل المسكين؟ إنّه يصبح فريسة لشتى المشاعر التي تؤرقه وتعذب نفسه الصغيرة.. فهو يشعر بأنّه غير مرغوب فيه، فقد افتقد الحب والحنان اللذين يحتاج إليهما كل طفل في سنّه، ويحاول بوسائله المحدودة أن يثير العطف عليه، فلا يكاد يرى أُمّه أو أحداً من أخوته، إذا كان له أخوة، حتى يرفع صوته بالبكاء!
وكثيراً ما نجده يستيقظ من نومه في الليل خائفاً مذعوراً بعد أن ينطفئ النور ويغرق البيت في الظلام، أو يصرح فزعاً إذا ترك وحده في غرفته لينام!
وإذا كبر هذا الطفل، تحول خوفه إلى فشل، فنراه يخشى كل شيء، ويخاف من كل محاولة، وتكون النتيجة أن يشب وقد تملكه شعور غريب بأنّ العالم كله يضطهده، وأنّ الناس يناصبونه العداء، فيتملكه اليأس، ويكره نفسه، ويكره الحياة ذاتها!
– الأُم القلقة على أطفالها:
وعلى النقيض من هذه الأُم، نجد تلك التي تبالغ في شعورها بالقلق على أطفالها، فتوحي لكل مَن يلقاها بأنّها تضحي بنفسها من أجلهم.. فهي تهتم بكل صغيرة وكبيرة في حياتهم.. وهي دائمة القلق على صحتهم، حريصة كل الحرص على ألا يصيبهم مكروه، أو ينال منهم مرض من تلك الأمراض والميكروبات التي تتخيل وجودها في كل شيء وفي كل مكان.. إنّها تحاول دائماً أن تكون درعهم الواقية ضد أي خطر منظور وغير منظور في البيت أو في المدرسة.. فإذا تأخر أحدهم عن موعد عودته إلى البيت طار صوابها، وراحت تضرب أخماساً في أسداس، وقد استبدت بها الهواجس، وخامرتها الشكوك والأوهام.
– الرغبة في السيطرة:
ومثل هذه الأُم تتصوّر أنّها تمثل قمة التضحية، وتعتبر نفسها مثالية، ولكن الدكتورة هيلين دويتش (Helen Deutch) مؤلفة كتاب “سيكولوجية النساء” ترى رأياً آخر، فهي تقول إنّ الأُم التي تبالغ في رعاية أطفالها وحمايتهم، إنّما تفعل ذلك بدافع الرغبة التي تسيطر عليها بامتلاكهم.. فهي تريدهم أن يتعلقوا بها.. أن يشعروا بأنّهم لن يستطيعوا الحياة قط بعيداً عنها.. وهي تفعل ذلك بدافع الغريزة دون أن تدرك أنّها بعملها هذا قد تقضي على شخصيتهم، وقد تقتل فيهم تلك النزعة التي تراودهم بالجنوح إلى الإستقلال على الأسرة وبدء حياة طبيعية في بيت الزوجية متى كبروا وبلغوا سن الشباب.
وتكون النتيجة في النهاية أن يعجز هؤلاء الأبناء عن مواجهة مشاكل الحياة عندما تكون لهم حياة خاصة بهم وحدهم بعيداً عن الأُم وعن بيت الأسرة الذي نشأوا فيه. وكم من شبان وفتيات رأيناهم يتعلقون بآبائهم حتى بعد الزواج.
– سيطرة مباشرة:
على أنّ هناك من الأُمّهات مَن يفرضن سيطرتهنّ بصورة مباشرة على أطفالهنّ وهؤلاء قلما يلجأن إلى أسلوب البذل والتضحية في سبيل بلوغ هذا الهدف في النهاية، فمثل هذه الأُم تفرض شخصيتها على أطفالها منذ اللحظة الأولى التي يعُون فيها معنى الحياة، فهي تجعل منهم عرائس صغيرة تحركها من حولها كيفما شاءت وقتما شاءت..
وتقول الدكتورة هيلين إنّ هذه الأُم غالباً ما تغلب عليها طبائع الرجولة.. وقد يكون موقفها هذا من أبنائها وطريقة معاملتها لهم، هو نفس موقفها من زوجها.. فهي التي تلبس البنطلون في البيت، وهي التي تمسك العصا، وهي صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في كل أمر وفي كل مشكلة تواجه الأسرة. إنها تضع يدها على كل شيء، ولا يمكن لأحد أن يتصرف في شيء إلا بإذنها..
وغالباً ما تكون هذه الأُم قد تأثرت بشخصية أُمّها هي، فتفعل اليوم ما فعلته أُمّها معها ومع أخوتها بالأمس!
– من أجل الأُم:
وفي كثير من الأحيان، نجد أنّ هذه الأُم المسيطرة تنزع إلى الحصول على وظيفة أخرى خارج البيت إلى جانب وظيفتها كأُم.. فإذا لم تكن مؤهلة للعمل، وجدناها تحاول تحقيق رغباتها وبلوغ مطامعها عن طريق الأبناء، فهي تدفعهم دفعاً إلى العمل وإلى الكفاح من أجل الوصول إلى هدفها هي.. وكثيراً ما يكون طموحها سبباً في إقدامهم على القيام بأعمال تفوق طاقتهم وقدراتهم، من أجل إرضاء هذه الأُم التي تقف لهم بالمرصاد، ولا ترضى بغير النجاح بديلاً.. وتكون النتيجة التي لا مفر منها أن ينتقل الأبناء من فشل إلى فشل!
– الشعور بخيبة الأمل:
ثمّ هناك الأُم التي تشعر بخيبة أمل دائمة، لا بسبب فشل الأبناء في حياتهم الدراسية أو العملية، ولكن بسبب عدم الإستقرار العاطفي الذي تعاني منه الأُم نفسها..
ومثل هذه الأُم غالباً ما تكون غير موفقة وغير سعيدة في حياتها الزوجية. ومن أجل هذا نجدها تنظر إلى طفلها ثمرة هذا الزواج، نظرتها إلى زوجها الذي لم تعد تشعر نحوه بأية عاطفة.. إنّها لا تحب زوجها لسبب ما، كأن يكون زواجها به قد تمّ رغم إرادتها، أو لأنّه يقسو في معاملته لها، أو لأنّها قد اكتشفت بعد الزواج، أنها تعاشر رجلاً في مثل سن أبيها، إلى غير ذلك من أسباب..
هذا الطفل، كيف يكون حاله؟ أن شعوره بكراهية أُمّه المتزايدة له، يجعله تعساً عصبياً يثور ويبكي لأي سبب ولأتفه سبب، وتتطور هذه التعاسة، فنجده يهرب من البيت باحثاً عن الحب الذي افتقده وعن السعادة التي لم يشعر بها يوماً في حياته.. فإذا كان مازال صبياً صغيراً، رأيناه يكثر من التردد على بيوت زملائه من أبناء الجيران.. وكثيراً ما تتوطد صداقته بهم نتيجة عطف أصدقائه وذويهم عليه.
فإذا كبر بحث عن الحب، ولكن في أماكن أخرى، وقد ينتهي به المطاف إلى أحضان الغانيات وبائعات الهوى.
– الأُم الطبيعية:
مَنْ هي الأُم الطبيعية إذن؟ إنّها على النقيض من كل هؤلاء الأُمّهات.. إنّها إمرأة واعية ناضجة عاقلة، هادئة، تحسن التصرف، وتعرف كيف تعامل طفلها في مختلف مراحل حياته.. فهي تحيا حياة طبيعية، مليئة بأسباب الإستقرار، لأنّها زوجة سعيدة، تبادل زوجها حباً بحب، فهي إذن ليست في حاجة لأن تُعوِّض نفسها عن الفشل العاطفي عن طريق السيطرة على أطفالها أو إعطائهم الحب الذي حرمت منه.
إنّها لا تهمل أطفالها، ولا تلفظهم لأنّهم سبب سعادتها ووجودها.. ثمّ هي أيضاً لا تعاني من أي صراع يعتمل داخل نفسها، ويؤثر بالتالي على مسلكها من أطفالها وتصرفاتها حيالهم.. إنّها لا تشعر مثلاً إنّه كان من الممكن أن تعيش حياة أفضل لو أنّها تزوجت رجلاً آخر غير زوجها الحالي، ولا تشعر إنّه كان من الممكن أن تكون أسعد حالاً لو أنّها بقيت بلا زواج.
– قناعة وسعادة:
إنّها لا تأسف لإضطرارها إلى ترك وظيفتها خارج البيت، لتتفرغ لوظيفتها الأُولى كأُم في بيتها..
وبإختصار، هي تلك التي لا ترضى بحياتها وواقعها فحسب، بل وتنعم بهذا الواقع وتجد في كل لحظة من لحظات حياتها متعة ما بعدها متعة.. ولأنّها سعيدة في حياتها نجدها تشعر بسعادة أكبر عندما ترى أطفالها يملأون البيت من حولها، لأنّهم جزء لا يتجزّأ من هذه الحياة.
وكل أُم تستطيع أن تكون هذه الأُم، إذا عرفت كيف تتخلص من متاعبها، ومن المشاعر التي تتملكها وتجعل منها إمرأة لا تصلح للقيام بدور الأُمومة.
فكثير من الأُمّهات يتصوَرنَ أنّ أُمومتهنّ وحدها كفيلة بأن تجعلهنّ قادرات على القيام بهذه المسؤولية الضخمة.. مسؤولية تربية الأطفال وتنشئتهم. وهذا تصور خاطئ من أساسه.. وأكبر دليل على ذلك، تلك الحالات العديدة التي تمتلئ بها عيادات الأطباء النفسانيين، ومحاكم الأحداث، ومستشفيات الأمراض العصبيّة.. حالات هؤلاء الأبناء المنحرفين الذين يسرقون، ويدمنون الخمر، ويرتكبون الجرائم في بعض الأحيان.
إنّ مسؤولية المرأة الأُولى، عندما تصبح أُمّاً، هي أن تبحث داخل نفسها عن مواطن الإضطرابات، أيّاً كان سببها ونوعها، فتخلص نفسها منها لكي تخلص أبناءها من خطر الإنحراف والتشرُّد والفشل في الحياة