سبق السيف العذل
كثيرة هي الأمثال الشعبية المتداولة في بلادنا، وخاصة في فلسطين، بل إنها أصبحت جزءاً من التراث العربي الأصيل، الذي يجب الحفاظ عليه؛ والتمسك به، وإلا ضاع مجدنا.
أذكر أنني في صغري كنت كثيراً ما أحاول أن أحفظ أكبر قدرٍ من الأمثال الشعبية، لأستطيع أن أجاري الكبار في عاداتهم وتقاليدهم، وكلماتهم الجميلة، من أمثال وحكم يعتدون بها.
هناك أيضاً عدد كبير من الأمثال العربية الأصيلة، التي لها تاريخٌ مجيد، كما أنها منقولة باللغة العربية الفصحى، بشكل رائع وممتع.
ومن الملاحظ جيداً، أن الأمثال لا تأتي هباءً منثورًا، بل لكل مثل قصته وحكايته، التي من بعدها يصبح متداولًا على الألسنة، باعتبار العبرة والعظة، من أحداث مشابهة.
وسنتعرض اليوم لمثلٍ عربي رائع، يحمل في طياته الكثير الكثير من المعاني التي سنتحدث عنها في وقتها.
*** سبق السيف العذل ***
ومعناه: أن القرار صدر قبل المداولة والتفكير، وبمعنى آخر الأمر الواقع أسرع من أن نلوم بعضنا، ونكثر الكلام في المسألة، وأما معنى لفظ “العذل”، فهي اللوم والعتاب والتأنيب.
ويقال هذا المثل للإنسان الذي يحاول أن يغير أمراً قد وقع حتماً، فيقال له، أو بمن يراجع أمراً معيناً دون جدوى وفائدة مما يفعل، فيقال له هذا المثل، من باب أن الأمر انقضى وانتهى. هذا ما يعنيه مثلنا، ولكن يا ترى من صاحب هذا المثل (قائل هذه المقولة)؟، وما مناسبته؟، وما قصته؟!
-
- أما صاحب هذا المثل فاسمه ضبظة (بضم الضاد، وتشديد الباء بالفتح) بن أد (همزة مفتوحة، وكسر مشدد للدال) بن طابخة بن إلياس بن مضر.
**وأما مناسبته وقصته فهي:-
ــ كان صاحب مثلنا ضبة يملك قطيعاً من الإبل يرعاها، وكان له ابنان، أحدهما اسمه سعد، والآخر كان سعيداً. في ذات ليلة من الليالي لاحظ ضبة بن أد أن الإبل تفترق وتنفر في جميع الاتجاهات، فنادى ولديه وطلب منهما إرجاع تلك الإبل.
خرج الابنان مسرعان في طلب الإبل واللحاق بها، فتفرق كل واحد منهما في جهة. حتى جاء منتصف الليل، فعاد سعداً بالإبل، ولم يعد سعيد مطلقاً.
بحث الأب عن ابنه مدة طويلة دون أن يعرف له طريق.
وفي يوم من الأيام قصد ضبة سوق عكاظ لبعض حاجته، فإذا به برجلٍ عليه بردين قد عرفهما ضبة، إنهما البردان اللذان كانا على ابنه سعيد يوم خروجه في طلب الإبل.
تقدم ضبة من الرجل، وقد كان اسمه الحارث بن كعب، فسأله عن البردين، فأخبره الحارث أنه صادف منذ أيام شاباً، ووصفه لضبة، عليه البردين، فسأله أن يعطيه أحدهما، لكنه رفض، فقتله وسلبه ما عليه، حتى سيفه، علم ضبة في قرارة نفسه بأن ولده مات غدراً، فطلب من الحارث أن يعطيه السيف لما فيه من لمعان يدل على قوته، فأعطاه الحارث السيف، دون أن يدري أنه والد قتيله، فانقض ضبة على رقبة الحارث وأرداه قتيلاً.
تجمع الناس ولاموا ضبة، ووبخوه لأنه قتل نفسًا بالأشهر الحرم، فقال مقولته الشهيرة: سبق السيف العذل.
ثم أصبح مثلاً تنطق به الناس إلى يومنا هذا.