الرجل الحديدي – إكسر حزنك
إنكسار يتلوه إنكسار ، أشبه بتعويذة حلت في ذاته لا يستطيع التخلص منها ، يبكي و لا يستطيع أن يشكي ، يكتم على أن يبوح و يضمر في صدره و في حجرات قلبه أوجعاً لا يعلم بها بعد الله سبحانه ، إلا بدنه الهالك المصفر من فرط نزيف الوجع ، لا يدري البدن أيبدأ بالأنين أم بالشكوى أو حتى الركود و لا يعلم حتى إن كان نبع عينه فرغ تماماً من ماء الدموع أو حتى قد سُدَّ من فرط الورم ، الذي يعلوه شفق الإحمرار الزاهي على وجهه الأسود مشكلاً بذلك مشهد البركان الخامد الذي تدفق من جوفه الحمم نتيجة الضغط الهائل الحاصل في باطنه .
كيف يتكلم ؟ كيف يواري جراحه و آلامه وكيف يجهز على تلك الوحوش الكاسرة التي قطنت مهجع عقله ، هل يبدأ بالنحيب من جديد ؟ هل يبوح بما طوّقه من حزن و غرس في قلبه رماح سُمه من الكئابةِ ؟ عقل مشتت و أحاسيس باردة و روح معذبة بإنتظار الرحيل لبارئها جل علاه ما لنا سواه ، وعواطف تكاد أن تتكدس في مخزن قلبه الرطب ، لا يكاد أن يرجع خطوة للوراء حتى يسقط في بحر إستسلامه من تلك الحياة اليائسة و من مطر الويلات الذي ينهمر فوق رأسه ولا يجد مظلة يتشبث بها ، فهو اللآن تقتله الوحدة شيئاً فشيئاً و يركد ببطئ.
وفي غفلة ركوده ، وضمت في عقله تلك الآية الكريمة ، أشبه بشعاع من نور أخترق بحر الظلمات الذي كان يقطنه ، منطلقاً من قاعه حتى قمته خارجاً بفوتونات الأمل لتحلق في سماء السعادة ، فيلتقطها هو من هناك ليصنع بها سيفه البتّار في وجه كل حزن كل كربةٍ وكل ضيق . نعم ، أرستم قول الله سبحانه ((إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )) – التوبة 40 – أمامه كجلاد يقطع رأس كل وحش هاجمه أو حتى حاول الإقتراب منه ، كيف لا وكل ما تلى كلام الله و أدرك معناه و جعله نصب عينه ما خاب وما قعس .
تنهد بعمق كبير ، نهض من ركوده ، غمر نفس بالماء متوضأً ، بسط سجادته وكبر و قرأ ما تسير هذه فاتحة تصدح وهذا قول الله ألم نشرح لك صدرك يُفرح ، ولا يجد نفسه إلا ذلها راكعاً ساجداً لوجه رب العباد داعياً أياه أن يزيل سحابات الغم التي غشيت بستان نفسه الوارف بالفرح و السرور ، فها هو نبيي و حبيبي محمد – صلى الله عليه وسلم – أشرف الخلق يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فكيف لي إن أحزن وأن أتكبد الأوجاع و رب العزة موجود ، الشكوى لغيره مذله ومهما كان همي و حزني سأتذكر أنه أمر من أمور الدنيا وأن الدنيا لا تساوي عند رب العباد جناح بعوضة وأن الله خلقنا متوسطين معتدلين نوازي بين أفراحنا و أحزننا فما حرم والله كلاهما و ما أوجدهما إلا لحكمة هو أدرى بها .
لن أكون الرجل الجليدي بعد اليوم ، فمع الله يتسير الجليد إلى حديد .