الحب والتحابّ في الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صلى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
في ظل الله
روى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَة أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلاَلِي؟ اَلْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلِّي” .
سبحان الله، فكما كان المتحابون بجلال الله يلتمس بعضهم بعضا للاجتماع عليه تعالى التماسَ الظامئ السبلَ إلى المنهل العذب الزلال، ويتفقد بعضهم بعضا حرصا على الآخرة كما يتفقد الرضيع قطرة اللبن في صدر أمه، ويطلب السالك منهم وجهه سبحانه بصحبة من يربط الله بقلوبهم وسلوكهم في السير قلبه، احتماءً واستظلالا تحت أجنحة الملائكة في مجالس العلم الذكر والنصيحة… يطلب اللهُ تعالى في هذا اليوم، الذي لا ظل فيه إلا لمن أظله سبحانه، أحبابَه المتحابين فيه، يذْكرهم فيجعلهم تحت ظله في اليوم الحار العصيب، جزاء ما كانوا يذكرونه تحت عينه في الدنيا، ويتفقدهم، وهو أعلم بحالهم ومكانهم، من بين الخلائق ليكرم وفادتهم، وهو أكرم الأكرمين، مثلما عظموا شعائره بين الغافلين.
وهو مشهد عظيم من مشاهد يوم الجزاء والوفاء، حين يُقَرِّبُ الله تعالى إليه صنفا من الناس، فيجلسهم على منابر من نور، وهم لا يحملون على أكتافهم مراتب النبوة، ولا درجات الصديقين، ولا نياشين الشهادة، لكنهم يحملون في صدورهم قلوبا مُنَوَّرَةً بذكره، متوحدة على محبته، وفي وجوههم سيما الراكعين الساجدين لجنابه، فاستحقوا غبطة الأنبياء والصديقين والشهداء بأقصر السبل الموصلة إلى حضرته: التحاب فيه سبحانه.
وغبطة الأنبياء والصديقين والشهداء للمتحابين فيه سبحانه لا تعني الأفضلية المطلقة للمغبوط، لكنه مشهد واحد من مشاهد التكريم، ولكل ذي خصلة من الخير ولكل شأن يوم الجزاء كرامة بين الخلائق معلومة.
قلب واحد
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ:
(الأول) الإِمَامُ الْعَادِلُ، (الثاني) وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللهِ، (الثالث) وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، (الرابع) وَ”رَجُلاَنِ” تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، (الخامس) وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، (السادس) وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ، (السابع) وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ” .
ومن لطائف هذا الحديث أنك إن عَدَدْتَ من ورد فيه من المستظلين بظل الله يوم القيامة تَجِدْهُمْ ثمانيةً لا سبعةً، بينما عَدَّهم صلى الله عليه وسلم سبعةً! فكيف يستقيم الأمر؟
هذا سر من أسرار ما جمع الصادقُ المصدوق صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم وفيوضات المعاني ومعجزات الإشارات. فكأنه صلى الله عليه وسلم يقول: إن التحاب في الله يجعل من قَلْبَيِ الرجلين المتحابين في الله عز وجل قلبًا واحدًا فيصيران كأنهما رجل واحد!
ولا يدرك معنى ذوبان القلوب بعضِها في بعض حتى تصير قلبا واحدا إلا من تفضل عليه مولاه بصحبة من آتاه الله تعالى طِبَّ القلوب كيف يداويها، وعِلْمَهَا كيف يؤلفها، وسِرَّهَا كيف يُذَوِّبُها حتى تصير على أنقى وأتقى قلب رجل منهم.
أن يصير القلبان قلبا واحدا إنما هو ثمرةُ تطبيبِ طبيبٍ خبير عارف مُلْهَمٍ موفَّق، ونتاج صحبة ربانية يغرف من بحرها الصادقون، ولهذا نقرأ في سيرة الصحابة الكرام تلك النماذج التي تبهر بمستوى التحاب الذي أثمر بذلا وتفانيا وإيثارا وتواصلا عز مثيله في تاريخ البشرية.
أن يصير القلبان والثلاثةُ والعشرةُ والألف قلبا واحدا معناه أن لمؤلفها من القوة والنورانية ومن التوفيق ما يتجاوز به أسوار عاداتها، ويخرق حجب النفوس الأمارة بسوئها، ويرقيها إلى محلها الأول من الفطرة التي فطرها عليه مولاها.
وهذا القلب الواحد يصبح من الحساسية بحيث يشوش عليه الحائل البسيط من حجر أو شجر أو جدار… ولا يعرف هذا ولا يحس به إلا القلبُ الحي رقيقُ الشغاف بما أحيته ورققته التربية النبوية. ومن أجل أن تمتد بهذه القلوب حياتُها وصف لها الحبيب الطبيب صلى الله عليه وسلم وصفة تعيد ربطها لتتصل بالمنهل الذي لا انقطاع له: روى أبو داود عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ أَوْ حَجَرٌ ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ” .
ورث الصحابة هذه المعاني مع ما ورثوا من ميراث النبوة العظيم، فانكشفت عنهم الحجب التي تحجب قلوب سائر الناس، ولكنها لم تحل بين تواصل قلوب أحياها وداواها ورققها ورباها الحبيب الطبيب صلى الله عليه وسلم على عينه حتى صار الرجل من الصحابة يناجي أخاه على ما يكون بينهما من مراحل ومسافات.